الدحيح .. صناعة محتوى المعلومة الرديئة
بقلم : فراس نعناع
في حقيقةِ الأمرِ، لم أكنْ أعرف بهذا البرنامج وما يحتويه إلا في الأيامِ الأخيرة، رُبما لتصدره “تريند” وسائِل التواصُل بسبب توقُّفه لأسباب ماليَّة، في العادةِ لا أساق لكُل ما يكتبُ ويتصدر، إلا أن ما لفتني إشارات بَعض الاعلامين والفنانين و إشادةُ بعض مما يقولُون عن أنفسهِم أكاديميون، رُبما لا يعرفُونَ “طه من أنطاكيه” حسب المثل الحلبيّ، مما جعَلني أبحثْ عن ذلكَ الدحيح والذي تغص “وسائل التواصُل بأشكال عديدة ومتنوعة من صانعي المحتوى والتي على شاكلتهِ”.
الدحيح : كلمةٌ عاميةٌ محليَّة “مصرية” وتعني (الطالب المجد الذي يُحبُّ الدراسَة والعلم)، وعبر بحث بسيط في “تاج العَرُوس نجد بأن:”- الدَّحُّ: شبهُ الدَّس، دحَّ الشَّيَ يدُحُّه دَحّاً: وضعه على الأرض ثم دَسَّه حتى لزقَ.
وعلى تلك الكلمةُ “الدحيح” اعتمد صانعو مُحتوى البرنامج ، عبر تقديم معلومات مختلفة “بالعامية المصرية” في معظم الأحيان، وإذا رجعنا لتعريف “تاج العروس “فالدح هُو الدسّ.” فماذا كان يدس ذلك البرنامج طيلة ثلاث سنوات.
من عادتي تشجيع أي موهوب، ولكي لا أكونُ مجحفاً بحقّه، أرسلت بعض حلقات البرنامج لعدّة أشخاص من فئات عمرية مختلفة وطلبت منهم رأيهمْ في محاولة لامتزاج واستقصاء الآراء، فكانت على الشكلِ التالي:
فادي – أولى اعدادي من مصر : ده واحد عبيط
مريم – أولى ثانوي من المغرب : لم أفهم عليه ردت “بالفرنسي”
أسامة – طبيب من مصر : شفت دقيقتين بس “وحش”
نيرمين – بكالوريا من مصر : لذيذ (واللذيذ صفة للطعام)
سها – باحثة أكاديمية بعلم الاجتماع، سوريا : سيء بس في لسى أسوأ منه
حنان – نحاتة من مصر : لزج
إسلام – جامعي مختص تاريخ إسلامي من مصر : للأسف ده بيشوه تاريخ مصر الفرعوني القديم، مع انو مش تخصصي، وبما أن أسامة رده جاء على حلقة الفراعنة التي أرسلته له سنأخذ تلك الحلقة مثالاَ:
مرغماً عني سأفرغ جزءاً من حلقة عن الفراعنة :
حوار بين أحمد الغندور ونفسه “شخصيتين”.
: حجوج مكسوف شوية بس دي تاسع مرة أتقدم لبنتك وعشمان فيك تنصفني.
: انت يا بني كل مرة تجي بنفس العلبة انت مخلط الجاتو.
: تصدق اني غلط ، مش قلتلك نكتب (مخطوتين) عُرفي ونخلص.
: عُرفي يا كليم.
: بدل قلة القيمة ديه.
: احترم نفسك احترم نفسك.
: انا لو لفيت (طيبة) كلها مش حلاقي أطيب من بنتك.
: والمطلوب؟.
: عايزين نوحد (القطرين).
: انت فاكر الموضوع بالساهل .. آااه يا عمي بالساهل.
: نتكلم في الجد انت بتشتغل في ايه؟.
: مش باين عليا ولا ايه مش باين من اللهجة.؟ محسوبك (كاتب في الدير البحري) على طول قاعد قعدة القرفصاء بالمعبد.
هذا جزء من حوار لحلقة عن تاريخِ الفراعنة العظيم الذي قدموهُ في ١٦٠٢ ثاثية على زعمِ صانعي مُحتوى الحلقة، في هذا الحوار المقتطع وجدت كلمات تدلُّ على الفراعنة كوني أعرف جزءاً من تاريخهم مثل (مخطوطتين، طيبة، القطرين، كاتب في الدير البحريّ).
وبتحليل سريع للحوار السابق والذي يلعب فيه لفظياً، كما بقية الحوار الذي لم أنقلهُ على مفردات لفظية “يقال لها كوميدية”، وعلى طريقة سجع “رامز جلال” الفجة وأسوأ أنواع الأداء سواء للتمثيل او التقديم علمياً هي “الكوميديا اللفظية”، نجد بأن:
- نكتب مخطوطتين “عرفي” هنا يشجع على الزواج العرفيّ، والذي لم يُجيز به الأزهر، ولا يعترف عليه القانونُ المصريّ كوثيقة رسمية، هنا أتكلم بحيادية.
- عايز نوحد القطرين عبر زواجه ، وهنا اختزال سيىء لما حققهُ “مينا” من توحيد القطرين “مصر السُّفلى ومصر العليا”.
- كاتب في الدير البحري على طول قاعد قعدة القرفصاء ، وهي إشارة على ما اعتقد. “لآني” صاحب “كتاب الموتى” الشهير الذي لولا كتاب آني لما عرفنا شيئاً عن اسرار طريق خلود الفراعنة . واختزله بقعدة القرفصاء.
بالتأكيد أي شخص لا يعرف تاريخ الفراعنة وتأثيرهم في تطور مسار التاريخ البشري سيأخذ ذلك الطرح الذي يقدمه “احمد الغندور وفريقه” بشيء من القبول.
إذا يشير عداد متابعي “الدحيح على موقع” فيس بوك”، والمصنفة بـ “شخصية خيالية” إلى ٢،١٠٠،٥٥٣ متابع وعلى موقع يوتيوب يشير الى ٤،٢٢٦،٣٠٠ متابع، وهذه الأرقام أخذت السبت ١٢- يونيو – بالتأكيد أي عاقل يبحث عن المعلومة الصحيحة سيذهب الى المصدر الموثوق، مثل” زاهي حواس” عالم المصريات الشهير على سبيل المثال.
مازالت كبريات الجامعات والأكاديميات المرموقة والمحترمة لا تعترف على “معلومات الإنترنت ومحتواها”، وهنالك جامعات عربية تسمح بأن تكون معلومات الإنترنت في ذيل المراجع. بالتأكيد العاقل سيذهب الى المراجع والكتب وأصحاب الاختصاص و ليس من خلال محتوىً “من تحت بير السلم” كما يقولون احبتنا في مصر عن المنتج السيء والرديء. هذا بالنسبة للمحتوى التاريخي المليء بالأغلاط والمسيء حقاً لمكانة “الفراعنة” لمصر وللعالم أجمع.
اما على صعيد اللغة العامية “المصرية” والتي أحبها كما غيري من العرب. فها هي مريم بنت “المغرب” لم تفهم عليه، وعلى صعيد متصل سئل عميد الأدب العربي “طه حسين” ذات جلسة مع نخبة من كتاب وأدباء ومفكري مصر مطلع الستينيات من القرن الماضي في ندوة تلفزيونية من قبل الأديب “يوسف السباعي”، عن استخدام بعض المفردات العامية في الأدب، فأجاب: لا حظت ذلك في كتاباتك وهو يشير للسباعي، أنا لا أفضل ذلك ، فاللغة الفصحى هى عمودنا الفقري، فأنت تخاطب العرب من المحيط للخليج عند ادخال العامية قد لا يفهمون عليك، بينما لغتنا الفصيحة مفهومة للكل. بالتأكيد أنا من أنصار “عميد الأدب العربي”، وخاصة اذا كان المحتوى “تعليمي” أو “معرفي”، كما أدرك أيضا بذات الوقت أن اللغة الإنكليزية لها لغة عامية محكية كما جل لغات العالم، ولكنهم لا يصدرون لنا تلك اللغة وهي معيبة، خاصة إن كانت بهدف نشر العلم والمعرفة، وهل التقديم باللغة العربية الفصحى بات معيباً، أم صعباً على الناطقين بها؟.
في حلقة عن اليابان بعنوان “اليابان الرّوِشْ”
اضطرت “مجلة اليابان بالعربي”على منصة فيس بوك بإصدار شبه بيان انقل منها مقتطفات:
- المصادر التي يعتمد عليها الدحيح، مراجع ومصادر لصحف ومراجع إنجليزية فقط وليست بمراجع تاريخية موثوقة (على الأقل ليست محايدة) ولا يوجد أي مصدر ياباني على الإطلاق.
- بعض النقاط التي ذكرت في الفيديو حول تاريخ اليابان إبان الحرب العالمية الثانية غير دقيقة.
- غفل الفيديو عن ذكر أن اليابان قدمت اعتذارها رسميا لجميع الدول التي استعمرتها إبان الحرب العالمية الثانية، وقدمت مليارات الدولارات بحزم المساعدات لتلك الدول، مثلا قدمت ٣٣ مليار دولار للصين حتى عام ٢٠١٨ كمساعدة.
أما على صعيد السيناريو والتقديم:
- بداية الفيديو غير موفقة إطلاقا وتعمق الصورة النمطية الخاطئة عن اليابان ولا تعالجها ، وهى غير طريفة.
- تم استخدام بعض الألفاظ العنصرية مثل “عيون ضيقة، بشرة ناعمة، شعر سايح، ونازي”، وإن لم تكن ألفاظ مهينة للمتابع العربي، فهي ألفاظ مصنفة بأنها عنصرية عالميا، فلا يجدر استخدامها مطلقا على منصة معروفة، وبالأخص من قبل شخص متعلم ويتقن الإنجليزية.
- يصور الفيديو أن الشركات اليابانية تحاول الترويج لنفسها عنوة وتدخل بيوت المستهلكين بدون جدارة، دون ذكر أن المنتج الياباني يتفوق على المنافسة بسهولة.
وعدة نقاط كثيرة، ويضيف البيان ندرك بأن هدف الفيديو تثقيفي، ومع ذلك يجب التحلي بالمهنية الكافية لنقل المعلومات التاريخية بأمانة وبحيادية تامة، بدل استخدام مصادر منقوصة، يتم عبرها تضليل المشاهد الذي يجهل هذا الجزء من التاريخ عن غير وعي او إرادة.
مما اضطر “ديمة الخطيب” المديرة التنفيذية للبرنامج والتابع لقناة (الجزيرة) لكتابة العبارة التالية:
(شكرا على ملاحظتكم القيمة ونقدكم البناء، نقدر ذلك) فقط، هذا تعليق “ديمة الخطيب” الذي كان والدها (مستشار الرئيس الراحل حافظ الأسد الثقافي) والمفروض هى قادمة من بيئة تعنى بالثقافة والمعرفة، واللغة العربية الفصحى أساس تلك البيئة، أما الشاب “أحمد الغندور” فيحمل درجة “الماجستير”، ولكن لا أعرف ماذا درس ومن تتلمذ على علمهم، وسؤالي له هل ناقش تلك الدرجة العلمية “الماجستير “باللغة العامية المصرية؟، أم باللغة العامية “الإنكليزية”؟.
وأضافت مجلة اليابان منذ يومين تعقيبا على إيقاف البرنامج” نتمنى للغندور التوفيق في مغامرته القادمة، حتى إن لم يكن عمله متكاملاً في نظر شريحة من الناس. وختمت مجلة اليابان تعليقها ساخرة باللهجة المصرية: “متنسوش تبصوا بصة على المصادر”، في إشارة واضحة إنكم غير مهنيين.
كانت تلك الحلقات مليئة بالأخطاء والتهكم والتقزيم، قدمت نموذجين عن حلقتين لذلك البرنامج المدعو “الدحيح” وبقية ما شاهدت لا تقل سوءاً وتقزيماً للمعلومات الواردة عبر محتويات البرنامج.
أتساءل هنا لو كانت “ديمة الخطيب” المديرة التنفيذية وأحمد الغندور المقدم “من اليابان وقدموا حلقة عن إحدى الدول وكان فيها لبس و أخطاء، هل سيستمرون في تقديم حلقات أخرى مليئة بالأخطاء؟أ ام سيقدمون استقالتهم، أجيب بأنهم أصلا لن يقدموا محتوى فيه أغلاط وسيكون طرحهم حيادي تماماً، وإن حصل عكس ذلك حتماً سيقدمون استقالتهم.
اذاً من سيكون غيوراً على حضارة مصر، وحضارات العالم الأخرى في ظل سيل هائل من قاذورات تقدم عبر منصات مختلفة، بعد غياب قوانين تحد من هذا السيل الجارف.
منتصف سبعينيات القرن المنصرم ، أصدرت “الألكسو” المنظمة العربية التي تعنى بالتربية والثقافة والعلوم، التابعة للجامعة العربية قراراً صارماً بشأن استخدام “اللغة العربية الفصحى” للمرئي والمسموع لبرامج الأطفال وأفلام الكرتون والبرامج التعليمية للناشئة، ولدينا أمثلة كثيرة مثل “افتح يا سمسم” و”بنك المعلومات” الذي نشأ جيل كامل عليهم، وغيره علاوة على ذلك معدو ومحرورو تلك البرامج كانوا على درجة كبيرة من العلم والمعرفة والمسؤولية المناطة لهم، اما مع اختراع الانترنت وفضاءه الواسع، لم يعد يفيد أي قرار، خصوصاً مع فقدان صلاحية “حارس البوابة” الرقيب.
ولكن نحن هنا أمام فريق كامل تابع للجزيرة دس لمتابعيه عبر ثلاث الكثير من السم والقليل من العسل، على ما يبدو وحسب المثل العامي “الضرب في الميت حرام”.