كتبت: سدرة محمد
على غرار الدراما التركية العاطفية التي يتابعها الجمهور بشغف، والتي يجدون فيها نوعا من التعديل لسلوكيات رومانسية أصابها الخمول في العلاقات الخاصة في حياتنا المفعمة بالعنف والعشوائية، وعلى قدر تعدد الأجزاء وعدد الحلقات التي تزيد أحيانا عن 120 حلقة، فإن المشاهد يتطلع دوما إلى أن يعيش أجواء مغايرة لواقعه الأليم، حيث يذهب بخياله إلى مناطق دافئة تكسبه نوعا من الطمأنينة، هكذا يأتي مسلسل “طاقة حب”، الذي عرض على منصة (viu) طوال 12 أسبوعا قبل دخول موسم رمضان، وهو من تأليف أحمد صبحي، وإخراج أحمد يسري، وبطولة “يسرا اللوزي وأحمد حاتم، محمود حجازي، رشا مهدي، سامح الصريطي، سامي مغاوري، شيرين، أنوشكا أحمد صفوت، محمد علاء، جيهان خليل، محمد طعيمة”، وغيرهم من نجوم برز أكثرهم في الإداء.
في إطار رومانسي درامي حالم تارة، وتارة أخرى مشحون بالغضب على جناح الصراع بين أطراف متناقضة داخل إطار نفس العائلة، استحوذت الأحداث على قلب وعقل المشاهد الطامح نحو الخيال الحالم والمواقف الرومانسية بين مختلف الشخصيات حتى في ظل هذا التناقض الظاهر بين بعضها البعض، لكن تظل المشاعر ساكنة في عمق النفس البشرية في انتظار لحظات ظهورها على السطح بين الحين والآخر، وعلى كثرة عدد الحلقات التي تصل إلى 60 في جزئه الأول، لكن المشاهد أمكنه العيش مع أبطال المسلسل الذي يدو حول صديقات العمر “لمى” العقلانية و”سلمى” الرومانسية الحالمة ومشوار حياتهما بكل خيبات الأمل وتحديات الطريق ونجاح السعي حتى يصلن للمعنى الأصح والأصدق للحب الحقيقي.
صحيح أن الأحداث في غالبها اتسمت بالعنف والمؤامرات التي غلبت في كثير من المشاهد على الجانب الرومانسي من جانب رجل الأعمال الشاب “مروان” الذي جسده “محمود حجازي” بالتعاون مع ابنة خاله التي صارت زوجته فيما بعد “ولاء” التي لعبت دورها “جيهان” خليل ، لكن الجمهور كان يجد من تهوى نفسه من جانب “أمير” الذي جسد دوره بعذوبة “أحمد حاتم” مستندا إلى هدوء الطبع ونقاء السريرة ماجعله يقود دفة الرومانسية طوال الوقت مع “لمى” التي لعبت شخصيتها بشفافية مطلقة “يسرا اللوزي” في نوع من الإشباع لرغباتها السلوكية التي تنعكس على الجمهور، رغم أن هناك بعض القيود على بعض السلوكيات من جانب الآخرين، والتي يجد الأزواج في غالبيتهم أنها غير ممكنة التنفيذ، لوجود بعض العوائق التي تمنع من القيام بها، ولعدم اعتيادهم عليها.
وبمعنى آخر، يبدو لي أن نجاح تلك الأعمال الدرامية يتلّخص بكثرة المَشاهد التي تعجّ بالرومانسية وفنون اللقاء، والجلسات ذات الأضواء الخافتة وباقات الورود، وشموع الدلال والدلع، كما جاء في مسلسل “طاقة حب”، وتلك الصّور المتنوّعة بجمالياتها جعلت المتابعين ومن كافة الأعمار منكبّين على متابعتها بشكل مستمر، من باب تفريغ طاقتهم العاطفية من جهة، والنظر إلى مشاهد وأماكن وأزياء لافتة، مع التركيز على بعض الشخصيات التي تجذب الأنظار إليها، لجمالها وأناقتها وأدوارها من جهة أخرى، وهى ربما لا تتوفر في كثير من الأعمال الدرامية الحالية بطابعها الذي يميل إلى نوعية “الأكشن” القائم على العنف والعشوائية.
ظني أن أي ثنائيات ناجحة، بغض النظر إن كانت رومانسية أو حتى كوميدية، إن تم الاشتغال عليها بشكل جيد من قبل كاتب مميز وذكي، ومخرج يطوع إمكانات كل منهما فحتما يكتب لها أن تنجح وتجذب المشاهدين، خاصة إذا كان هذا الثنائي يشكلان أيقونة حب عذري جميلة مثل “أمير ولمى” اللذين أحبهما الجمهور وأصر على متابعتهما طوال الحلقات بنوع من الاهتمام رغم ما يواجهما من متاعب ومشاق لإثبات أن حبهما حقيقي لايسعيان من ورائه لمصلحها، كما يعتقد “صابر الغرياني والد “لمى” والذي لعبه بحرفية عالية “سامح الصريطي”.
ورغم قصص الحب تشبه نفسها وتتكرر، خاصة أن الغزل واحد في كل الأعمال، وصارت الخطوط الرومانسية ضعيفة وتقليدية ومكررة، إلا أنه كان هنالك خطا رومانسيا واضحا استطاع أن يلامس وجدان المشاهد ويصدقه في مسلسل “طاقة حب”، وقد ساهم في خلق هذه الحالة الكتابة الجيدة لأحمد صبحي الذي سار هنا على نهج أرسطو الذي يعتبر “الحبكة ” أعظم الأجزاء الكيفية أهمية في بناء التراجيديا، بل هى على حد قوله – روح المأساة – والحبكة مصنوعة بالضرورة مما تفعله الشخصيات وما تفكر فيه، وما تشعر به، وعلى هذا يمكن القول بأن مادة “الحبكة” هى”الشخصية” تماما كما اتضح لنا في تصديه لموضوع شائك عالج من خلاله الفارق الطبقي بين “لاما وأمير” بنعومة شديدة، وساعده في ذلك حركة الكاميرا من جانب المخرج أحمد يسري، ولهذا أحب المشاهدون قصة الحب التي ربطت بينهما.
وهنا لابد لي أن أشيد بحسن الأداء الذي تمتع به “أحمد حاتم”، الذي يبدو لى في تجسيده لشخصية “أمير” أنه يدرك أن حرفية التمثيل المقننة والتي تتسم بالعفوية والتلقائية، الخالية من أي مبالغة في الأداء، انطلاقا من أن الكاميرا ستضخم أي تعبير في الوجه مهما بدا صغيرا مثل جفن يرمش أو فم يرتجف انفعالا أو عيون حزينة تدمع، وتبدو الكاميرا هنا وكأنها المجهر الذي يقوم بتكبير العينات الموضوعة أمامه عشرات المرات، لذا تعامل “حاتم” مع الشخصية بحرفية عالية جدا على مستوى لغة الجسد التي اتسمت بالبساطة والتلقائية، وقد استعمل صوته بشكل يمكنه من أن يتحسس أدنى الدرجات الصوتية (التونات) في إدارك تام بأن أي ارتفاع في الصوت عن حده الطبيعي يصبح نشازا كما هو الحال مع الصورة.
كما كان للصمت في أدائه إيقاع مواز لإيقاع الصوت؛ لتباين المعنى المختفي في الصوامت الدرامية عن المعنى الظاهر في صوتيات الحوار الدرامي، وتباين جماليات الأداء بين التعبير التمثيلي الصائت والتعبير التمثيلي الصامت؛ خاصة وأن زمن الصمت أقصر من زمن الحوار، وأبلغ منه، فالصمت بين الكلام مثل الكلام، كلاهما يدل على معنى، يقول الجاحظ “ومتى دل الشيء عن معنى فقد أخبر عنه وإن كان صامتا، وأشار إليه وإن كان ساكنا”، هكذا كان حال “أحمد حاتم” بوصف الجاحظ مطابقا للمعني في أداء يتسم بالعذوبة والحرفية، ما يؤكد أنه ممثل صار ناضجا بالقدر الكافي للعب أدوار البطولة بسهولة.
وقد أجادت “يسرا اللوزي” بأداء عفوي اعتمد البساطة وكان يتوافر فيها الإحساس وقوة التركيز للأفكار وقوة التذكر للحركة الجسمانية بحيث عاشت في الدور وتسللت تحت جلد الشخصية، وكان لديها دائما المقدرة على إيجاد العلاقات الذهنية ومنطقية الإحساس والقدرة على التحليل النفسي لسخصية “لمى” المدللة جدا من جانب أبيها، وقد أثبتت “يسرا” من خلال أزمة فقدان ابنها الرضيع ودخولها في غيبوبة على أثر وقوعها على السلم بدفع من اختها لها بعد مشادة كلامية بينهما، أنها أخلصت للدور الذي تؤديه، بل إنها عاشت في مجتمع الدور بإحساس صادق، وحاولت الوصول إلى أكبر درجة من الإتقان، و على هذا الأساس يمكن تحديد قوة الممثل أو ضعفه أو ما يسمونه غالبا بالموهبة الفنية.
وعلى درب الإجادة يأتي أداء النجمة الكبيرة صاحبة الإحساس الراقي “أنوشكا” التي عزفت بنعومة على أوتار شخصية “سميرة” الأرملة الطروب التي تدخل في صراع عنيف مع ابنها وأخوها جراء تدفق مشاعرها تجاه شاب من عمر ابنها، وكذلك قدرتها على حمل أعباء كل أفراد أسرتها وقت الحاجة، بحيث كانت جدارا صلبا تجاه كل الأزمات العاصفة باستقرار العائلة، ما يؤكد لعبها الشخصية على هذا النحو الذي يثبت أنها من ممثلة موهوبة تدرك الحياة حق الإدراك، وهذا بالطبع هو ما يضعها في خدمة الدور عن طريق الشعور والإحساس، والتعمق في كل لحظة من اللحظات تأدية الشخصية بملامحها وحركاتها وحواراتها وإيماءاتها ونظراتها.
أما “سامح الصريطي” فيثبت يوميا أن يضيف للشخصيية التي يؤديها من فائض خبرته الطويلة في الأداء الاحترافي، فهو من بين القلة من الفنانين الذين لا يمكنه فصل وسائل التعبير لديه عن نفسه، لذا فقد أبدع بإستخدام جسده وصوته وميزاته النفسية والعقلية .. أي أن إبداعاته لا تنفصل عن شخصيته، فإنه لمن الصعب فصل موهبة الممثل وإبداعه عن شخصيته، ومن ثم فلا بد له من توافر عناصر أساسية مثل المقدرة والدراسة والممارسة، كما يحتاج الممثلون من أمثاله إلى أجساد مرنة مطواعة معبرة، والتدرب على طريقة التنفس بطريقة صحيحة وعلى التنويع في إيقاع الصوت والنبرة بشكل يسمح لهم بالتحدث بصوت مرتفع أو منخفض، أو بشكل حاد أو ناعم كما جاء في أدائه لشخصية “صابر الغرياني في لحظات قوتها وضعفها وانهيارها أمام الحب حالة المستحيل أمام ابنته “لاما”.
ويبدو لي أيضا أن الثنائي الرومانسي أحمد صفوت في دور “فؤاد”، وهاجر الشرنوبي في لعبهل لدور الطبيبة النفسية التي تتحول إلى حبيبة تقوى على انتشاله من كبوته مع زوجته السابقة “سلمى”، تلك التي أفقدته الثقة في العيش في تجربة الحب من جديد، فقد بدا “صفوت” في طريقة الكلام (المنفرد، المناجاة، التجنيب أو الجانبية والحوار) صداقا للغاية، واقعي إلى حد كبير في التعبير عن آلامه جراء صدمته في زوجة جاحدة لم تبادله الحب لحظة واحدة، فقد استطاع تطوير ذاكرته العاطفية التي مكنته طوال الحلقات من استرجاع الموقف الذي أوجد عنده رد فعل عاطفي مماثل، وهذه طريقة تمثيل معقدة ولا يجب استخدامها إلا بعد أن يطور الممثل فهما شاملا وعميقا لها، وهذا ما فعله”صفو” مع شخصية “فؤد”.
وقد كانت هاجر الشرنوبي على نفس درجة الفهم لذاتها وقدراتها العاطفية قدر المستطاع ، ومن ثم فقد أمكنها فهم وتصور”فؤاد” باستعمال معلومات عنه وتطوير نوع من التحكم بالاستجابة لعواطفه المرتبكة، خاصة في ظل ظهور “سلمى” في حياته من جديدا نادمة على مافات من عمرها معه، ويبدو أن الشخصية قريبة من شخصيتها الحقيقية بشكل كبير، لذا فقد انعكس على طريقة أدائها بأسلوب يبدو فطريا للغاية، ما جعلها تتحكم في مشاعرها وتقودها أمام الكاميرا بطريقة ذكية مخلوطا بقدر من الكوميديا الخفيفية التي أظهرتها ممثلة يمنك أن يكون لها مستقبل كبير في نوعية الأداء الرومانسي.
أما مفاجأة المسلسل الحقيقية على مستوى الأداء الجيد، فهو “محمد طعيمة” الذي كان لافتا بقوة بإفيهاته الحاضرة وحركات جسده السمين في دور الموظف المتردد والخامل في عمله لكن عيناه كانت معبرتان للغاية في أداء كتكمن يستطيع أن يخلط الكوميدي بالتراجيدي في قالب محبب، كما برع في هذا اللون أيضا الفنان القدير “سامي مغاوري عبر المواقف والسلوكيات والأخلاقيات والأفعال والأقوال في الحياة الاجتماعية، التي قدمها بأسلوب يتصف بالتهكم والهزل الذي يعتمد على المواقف الساخرة المستوحاة من الموضوعات الاجتماعية،وتحولاتها إلى دراما اجتماعية تعتمد على المفارقات التي تثير الضحك والبكاء في آن واحد.
ويبقى للثنائي “محمود حجازي وجيهان خليل” مذاق خاص ومختلف من الأداء العدواني الظاهر في شخصية “مروان” والعنف المشوب بالخبث المبكوت داخل شخصية “ولاء” وطريقة انسجامها معا في إطلاق براكين الشر والحقد والغضب على جناح أداء ارتجالي لافت، فقد بدا كليهما ومعهم “محمد علاء” في شخصية “خالد” أشبه بالساحر الذي يبني صوراً إيهامية / خادعة بغرض أن يوحي بواقع ما، كما بدا هذا الثلاثي الشرير “بشكل أو بآخر – نصاباً، أو محتالاً يجيد عمله في التظاهر والكذب والتصنع وانتحال شخصية أخرى ، أو تحويل شيء أو شخص إلى شيء آخر أو شخص آخر، لكن تحتم عليه قواعد اللعبة أن يتظاهر بصورة توحي بالأمانة، وأن يكذب بشكل صادق، وأن يتصنع بصورة مقنعة، وأن ينتحل – أو يحاكي – الشخص الآخر بشكل يقترب من الواقع.