المعنى الحقيقي في “سبعة قرون قبل الميلاد”
بقلم : كرمة سامي
ما قيمة الحياة بدون حلم؟ بدون هدف؟ لماذا نكتب؟ ونعلم؟ ونداوي؟ ونبني؟ أي جهد بشري لابد أن يكون دافعه موقف، مبدأ، قيمة، معنى، وإلا فكل شيء عبثي، مسرحية هزلية يتراقص المؤدون على خشبة المسرح، يشتبكون ويثرثرون ويهذرون حتى تنزل الستار وينتهي العرض.. وينتهي كل شيء.
لهذا وسط عشرات الأفلام التي شاهدتها مؤخرا توقفت طويلا عند هذا الفيلم الدرامي الوثائقي. كتبه مصطفى نور وعرض على الفنان الملحن شريف الوسيمي أن يشاركه في إنتاجه فتحمس شريف وبدأ التعاون الكامل مع البطل موضوع الفيلم حتى اكتمل العمل وخرج إلى النور. لماذا تحمس نور والوسيمي لقصة بطل التنس أنور الكموني في فيلم مدته أكثر من خمسين دقيقة؟ لماذا -بما يتمتعان به من موهبة في الكتابة والإخراج والتصوير والموسيقى والرؤية- لم يتعاونا على ‘بدعة’ تنتشر في دقائق ‘يوتيوبية’ ثمينة انتشارا ‘ڤيروسيا’ على نطاق واسع تتحول إلى موضة عابرة -نعم- ولكن بعد أن تحقق لهما الملايين؟ لكنهما بدلا من أن يطاردا زبدا يذهب جفاء جسدا كلمة النصح التي وجهها السينمائي القدير أوليڤر ستون لشباب كتاب السينما عام ٢٠١٧: “أناشدكم أن تلتمسوا الوسيلة لتنفردوا بأنفسكم، أن تنصتوا إلى (أنواع) صمتكم (المتباينة)… حاولوا ألا تبحثوا عما تريده الجموع لكي تكونوا ناجحين، ولكن حاولوا، بدلا من هذا، أن تبحثوا عن المعنى الداخلي الحقيقي لحياتكم هنا على الأرض، ولا تخذلوا قلوبكم في نضالكم من أجل السلام والأخلاق وقول الحق.”
بطل القصة الواقعية والسينمائية هو أنور الكموني من مواليد ١ مايو ١٩٨٣، ابن لأسرة مصرية مستورة ومستنيرة، شجعته على بناء نفسه رياضيا في طفولته ومراهقته، درس بالجامعة الأمريكية وفجأة في سن الحادية والعشرين قرر أن يحترف رياضة التنس وفي فترة وجيزة أصبح من المصنفين على مستوى العالم أهلَّه لذلك ممارسته القوية الجادة للرياضة ولياقته البدنية وعزيمته.
حقق الكموني نجاحات رياضية وتقدم في تصنيفه العالمي ثم بدأ يشكو من آلام بالظهر تجاهلها وتحامل على نفسه حتى سقط في بطولة مقدونيا عام ٢٠٠٦ وبدأ مشوار التحاليل حتى تأكدت إصابته بمرض فشل النخاع العظمي فتحولت حياته من الملاعب الخضراء والحمراء والتدريبات والبطولات إلى اختبارات عينات الدم وجرعات الكيماوي والبريدنيزون وأعراضهما الجانبية التي سرعان ما أصبحت محور حياة الكموني وأثرت على جلده وشعره ووزنه وكبده وكليتيه وجهازه المناعي ودمرت تدريجيا أعضاء جسمه حتى وصل به الأمر لإصابته بغرغرينة كانت ستؤدي إلى بتر أصابع يديه!
وجه الكموني وجه مصري أصيل، يبدو صعيديا منحوتا من جبال جنوب مصر، وجه مجند في الجيش المصري ذاق مرار هزيمة ٦٧ وعاد سيرا على الأقدام عبر سيناء يتعقبه الجيش الصهيوني لكنه يراوغهم ليصل إلى الشاطيء الآخر ثم يعود لينتصر بعد سبع سنوات وقد ولد من جديد.. من نصر استحقه لنفسه ولأمته وللإنسانية. كيف تحول الكموني من انتظار الموت إلى ميلاد جديد؟ من المستحيل إلى الممكن؟ من البتر إلى حمل مضرب التنس والعودة للملاعب واسترداد تصنيفه العالمي ليصبح كما يوصف الآن” أول رياضي في العالم يعود إلى ممارسة رياضة محترفة بعد عملية زرع النخاع”؟
في منطقة درامية ما بين التسجيلي والروائي يكمن الحلم في الفيلم، معتمدا على لقطات قديمة من أيام تدرب الكموني في أكاديميات التنس بأسبانيا وبعض مبارياته ثم ينتقل إلى شهادات للطبيب المعالج الدكتور حسام كامل، ووالدة الكموني، وزوجته، وحماته. كل شهادة منها تحكي جانبا من أسطورة البطل، تفاصيل تبدو في ظاهرها بسيطة، لكن ظهور الكموني والتصاق الكاميرا به وجها لوجه في لقطات مقربة ممثلا للخط السردي الرئيس بين هذه اللقطات يكسبها مصداقية ليضيف بعض التفاصيل، أو يعلق، أو يشرح، أو يؤدي مشاهد درامية صامتة تضيف إلى مصداقية التجربة… فشل في النخاع أكثر شراسة من السرطان، طرد عكسي تنتج عنه معركة شرسة بين النخاع وجسم الانسان يدفع ثمنها الجهاز الهضمي والكبد والجلد، وزيادة الوزن إلى أضعاف الوزن الطبيعي، وآلام لا يحتملها بشر تهاجمه، يتحدث الكموني عن هذه الحياة الأخرى عبر تفاصيل يسردها في الفيلم كأنه يصف لك مشوارا سخيفا في شوارع مدينة مزدحمة!
هكذا يحكي الفيلم قصة الكموني ببساطة وسلاسة كي لا يضيف إلى أعبائك في التلقي لأن الحكاية ليست بتلك البساطة. هكذا بدون الحاجة إلى تحذيرك مما أنت مقبل عليه. عنوان الفيلم غاامض يعدك لجو تاريخي لكنه في الواقع يبتعد بك عن المسار الأصلي وبالتوازي مع عناصر فنية سينمائية تبدأ بملصق مركب للفيلم الذي يعد المتفرج للرحلة إذ يصور شابا يفتح ضلفتيّ نافذة زجاجية تطل على تلال خضراء يحلق فوقها سرب من الطيور ويستقبل شمسا مشرقة في رمزية قوية ترسخ دور الإضاءة المركزي في التكوين.
تمتد العناصر الفنية المتناغمة إلى الموسيقى (شريف الوسيمى) والتصوير (مصطفى نور) والمونتاج (راندا سالم). تعمل تلك العناصر معا في مجملها على الاعتدال الحريص في التناول للحدث كي تفسح المجال للموضوع الذي يبدو بسيطا ثم تشتد وطأته تدريجيا مع الإفساح السردي المشهدي للكموني الذي يحكي حكايته مع المرض ‘على راحته’ ودون تدخل أو فذلكة فنية تبتغي إبهارا سينمائيا على حساب إنسانية الحدث المروي.
سبعة قرون قبل الميلاد هي سيرة سبع سنوات عجاف قبل الشفاء من مرض لا شفاء منه، مرت هذه السنون في وطأتها على البطل كأنها قرون. الرقم واقعي يوثق سنوات معركة البطل الحقيقية مع المرض، ولأن طبيعة الرقم الواقعية تتماس مع دلالته القرآنية فالمتفرج يتمسك بخيط من الأمل يتمنى أن يرى في نهايته البطل يكافأ على مقاومته الصابرة بسنوات من الرخاء.
لغة الفيلم سمعية بصرية بسيطة. الموسيقى التسجيلية شاهدة على الأحداث وفق تطورات وتيرتها فهي متابعة ومتضامنة ومتعاطفة، تسري مع الأحداث فتتسحب إلى لا وعيك فلا تشعر بها لأنها امتلكتك من داخلك وأصبحت جزءا من الفيلم وجزءا منك أنت كذلك. تمثل الأغنية التي كتبها عماد مطر ولحنها الوسيمى ذروة التعبير عن قضية الفيلم من معاناة تتحول إلى انتصار. ويتحول بنا المونتاچ من رحابة ملاعب التنس إلى ضيق غرفة المستشفى بالتناوب وما بينهما مشاهد متفرقة لأشخاص محورية في رحلته، فيما يتأكد بهذا التحول انكماش عالم البطل تتخذ الرحلة أبعادا أسطورية تميزها عن تجارب لأبطال آخرين، ويتأكد وضع البطل الذي يؤكد استحقاقه لتلك الصفة: البطولة، التي لم تغب عنه في مجال الرياضة وبالتأكيد في المجال الإنساني الأرحب.
بعد ما عاناه الكموني من أهوال يستحق أن تنحت من اسمه كلمة تلخص في أحرفها رحلته، الموقف الكموني، الأسلوب الكموني، الشجاعة الكمونية، صبر الكموني. تشعر أنه التقمه الحوت وظل في جوفه سنوات ثم لفظه على اليابسة لياخذ عهدا على نفسه أن يجعل من كل خطوة له على الأرض عمرا للآخرين وفرصا للنجاة. يعلم الكموني جيدا أن النجاة ليست هي الغنيمة وإنما رحلاته التنويرية لجماعات مختلفة من البشر في المستشفيات والمراكز العلاجية والمدارس والجامعات والمؤسسات وحواراته الصحفية ولقاءاته التليفزيونية ليحكي لنا كيف ابتلاه الله واختبره ثم كتب له الشفاء.
قصة تؤكد في كل تفاصيلها أن زمن أسطورة البطل الأوحد باق، وعصر السرديات الكبرى لم ينته وعلى السرديات الصغرى أن تنزوي جانبا. تبرهن تفاصيلها أن المعجزات لم تختف من عالمنا والدليل هو الكموني الذي يزعزع رؤيتك الهشة للحقيقة ثم يعيد بناءها على أصول راسخة وبنية تحتية رصينة.
مشاهدة هذا الفيلم التسجيلي/الروائي فرض عين، لابد أن يعرض الفيلم في المدارس والجامعات المصرية بمبادرة رسمية جماعية من وزارات الشباب والصحة والثقافة والتربية والتعليم والتعليم العالي. جرعة الأمل في هذا الفيلم كفيلة برفع معنويات الآلاف من شباب الأمة إن لم يكن الملايين لهذا لابد أن يعرض الفيلم في قصور الثقافة بمحافظات مصر ويستضاف البطل أنور الكموني ومعه كاتب الفيلم ومخرجه ومنتجه مصطفى نور ومنتجه المشارك الفنان شريف الوسيمى حتى ينتشر الوعي ورسائل الأمل والإرادة التي استثمروا فيها وقتهم وجهدهم.
عندما نشاهد فيلم الكموني سيستحي كل منا من أحواله، سيكف عن الشكوى من نزلة برد ألزمته الفراش أو لكمة طرحته أرضا، أو مرتب انتهى قبل منتصف الشهر. كل الأوجاع والمشاكل والمصائب ستتضاءل حجما، سنكف تماما عن الأنين والولولة والتذمر. سنغلق أفواهنا وتلهج ألسنتنا بذكر الله وحمده وشكره.
لهذا عندما ترى مصطفى نور وشريف الوسيمى ستسعد بهما وترى فيهما شباب مصر الموهوب المستنير، وعندما تلقي نظرة أخرى على أنور الكموني ستراه عملاقا، مثلا أعلى في الصبر والحمد.. ستراه مصريا أصيلا وعظيما، هذه هي السينما المصرية التي تعبر عن قضية مواطن مصري، ننتظرها منذ زمن تجسد لنا مضمون كلمة نصح أخيرة للمناضل السينمائي أوليڤر ستون الذي قاوم وصمد كثيرا من أجل إيمانه بقضايا عادلة وصنع بأفلامه واقعا سينمائيا موازيا كان شعاره: ” إذا آمنت بما تقوله وصمدت في مسارك فستستطيع، عندئذ، أن تحدث فرقا.”