أحمد خميس تسبب في إشهار “حماته” الإسلام !
كتب : أحمد السماحي
نشأ الأدب والفن لخدمة أغراض دينية، ظهر الأدب أول الأمر فى صورة دعوات وابتهالات كان يرددها الكهنة الوثنيون فى العهود البدائية لاسترضاء آلهتهم، أو لاسترضاء القوى الخفية التى حسبوا أنها تتصرف فى حياتهم وأرزاقهم.
وظل الأدب والفن فى العهود الأكثر تحضرا يخدمان الدين ويثبتان المعتقدات السائدة، ثم ظهرت القصص والمسرحيات الدينية التى تقوم بتوطيد تلك المعتقدات، وتطورت الموسيقى من الطبل والزمر البدائيين إلى تراتيل دينية، ثم انفصل الأدب والفن شيئا فشيئا عن الدين، وانقسما إلى قسمين اثنين، اضطلع قسم منهما بتثبيت المعتقدات الإجتماعية والسياسية السائدة، واضطلع القسم الآخر بمعاداتها وكشف زيفها وتقويض أركانها.
وعلى مدى تاريخ الفن المصري جمع عدد من النجوم بين حرفية الفن وموهبة الأدب فكتب بعضهم الشعر أو القصة، بعضهم أجاد وبعضهم كان ضيفا خفيفا على الأدب، وبداية من هذا الأسبوع سنتوقف كل أسبوع مع واحد من هؤلاء النجوم لنلقي الضوء على مشواره الفني، وموهبته الفنية والأدبية.
النسمة
هو واحد من أرق نجوم السينما المصرية، كان بمثابة النسمة الرقيقة التى مرت فى الوسطين الأدبي والفني، متناسق التقاطيع، جميل الوجه، إذا تكلم فصوته هادئ الإيقاع عميق النبرات، أنه الفنان ” أحمد خميس” الذي طغت شهرته كممثل على شهرته كشاعر و إذاعى، لأن الإعلام لم يسلط عليه الضوء كشاعر كما يجب، عرفته مصر فى البداية مذيعا إذاعيا لامعا، وعرفه الكثيرون ممثلا سينمائيا، وقلة قليلة عرفته شاعرا كبيرا، ونحن نوثق له علمنا أنه بدأ مشواره شاعرا غنائيا حيث غنى له المطرب والملحن “أحمد عبدالقادر” فى شهر ديسمبر عام 1947 قصيدتي “إلى حسناء السودان” و”القرنفل”، وفى نفس الوقت كان ينشر بعض قصائده الوجدانية التى لفتت إليه الأنظار فى مجلة “الهلال”، وربطت بينه وبين الملاح التائه “علي محمود طه” شاعر الجندول الشهير صداقة ووطيدة.
مكتبة شقيقه
ولد ” أحمد حافظ علي خميس” يوم 13 يناير عام 1925 بحي “درب سعادة” بالسيدة زينب، كان والده يعمل بالتجارة فى حي الموسكي، وأمه ست بيت من أصل تركي، وكان خامس أخوته، كان فى طفولته يميل للعزله والإنطواء ووجد فى مكتبة أخيه الأكبر “عبدالله” زادا ثقافيا طيبا فأقبل عليها يقرأ بنهم أمهات الكتب فيها، وبصفة خاصة دوواوين الشعر العربي لــ” المتنبي وابو العلاء المعري وأحمد شوقي، وحافظ إبراهيم، وعلي طه، ومحمود سامي البارودي،وغيرهم، وبعد حصوله على الشهادة الإبتدائية توفى والده، فتولى شقيقه الأكبر “عبدالله” رعايته، وأثناء دراسته فى مدرسة “الفنون والصنائع” بدأ تظهر مواهبه الشعرية فكان يراسل الجرائد والمجلات الأدبية التى آمنت بموهبته، فكانت تنشر له قصائده، وعام 1946 ، حصل على دبلوم “الفنون والصنائع”.
أبوه الروحي
وقابل بالمصادفة شاعره المفضل “علي محمود طه” وعرفه بنفسه واسمعه بعض قصائده، فدعاه “طه” لصالونه الأدبي الذى يعقده فى شقته في وسط البلد كل أسبوع ويحضره نخبة من رجال الأدب والفن والسياسة منهم “الموسيقار محمد عبدالوهاب”، والفنان “سليمان نجيب”، والكاتب الصحفي الكبير “محمد التابعي”، والمطربة “لوردكاش” وغيرهم ، وفى هذه الفترة التحق بمكتب إذاعة “بي بي سي” اللندنية، حيث شارك في تأسيس القسم العربي بها، و كان معه وقتها الأديب المعروف “د.يوسف عزالدين عيسى”، و الفنان الكبير “محمود مرسي”، وما لبث أن التحق فى
بداية الخمسينات بالإذاعة المصرية ليعمل بها مذيعا، ورغم صعوبة الإختبارات التى كان يجريها أمام فطاحل الإذاعة، لكنه اجتازها بنجاح نظرا لإجادته التامة لقواعد اللغة العربية، وإلقائه البديع الذى وضح فى مخارج حروفه.
أنشأ إذاعة الإسكندرية
عمل “خميس” فى الإذاعة المصرية عدة سنوات، وعندما فكر المسئولين فى إنشاء إذاعة محلية بمدينة الإسكندرية، اختير لإنجاز هذه المهمة مع مجموعة من القيادات الإذاعية المتميزة وهم “حافظ عبدالوهاب، سعيد أبوالسعد”، وغيرهم، وانطلق صوته فى السادس والعشرين من يوليو 1954 بجملة “هنا الإسكندرية”، وعاش شهور فى الإسكندرية، وكانت فترة ثرية له حيث انغمس فى الحركة الأدبية السكندرية وتفاعل معها، واستطاع أن يحول “إذاعة الإسكندرية” إلى منبر للثقافة والمعرفة والذوق الرفيع، واكتشف برنامجه ” أدب الشاطئ” العديد من المواهب الأدبية والشعرية.
“الروابي الخضر”
فى نهاية عام 1954 رجع للقاهرة وقابل الموسيقار “محمد عبدالوهاب” الذى طلب منه قصيدة ليغنيها فأهداه قصيدة إسمه “الروابي الخضر” التى يقول مطلعها :
يا ليالي الشرق هل عادتك أشواق الغناء
والروابي الخضر تشدو والسنا حلو الرواء
و الأماني هتاف عرفته الضفتان
فجرى في مقلة الأرض و في قلب السماء
فأحدثت الأغنية نجاحا كبيرا ، حتى أن الإذاعي المتميز “وجدي الحكيم” اشتق من اسمها و مقدمتها الموسيقية عنوان لبرنامجه الإذاعي الشهير “ليالي الشرق” الذى كان يقدمه بإذاعة “صوت العرب”، وبدأ الجميع يلتفت إلى موهبة هذا الشاعر سواء من الوسط الأدبي أو الوسط الفني، فغنى له “فريد الأطرش” فى نفس العام يوم 20 أكتوبر وبمناسبة عيد الجلاء نشيد ” البعث الجديد” الذى يقول في مطلعه:
بني مصر قد راح ليل العبيد
فكونوا لمصر الضياء الجديد
بني مصر بالعلم نغزو الحياة
وبالخلق السمح نرضي الإله
فكونوا هداة .. وكونوا أباة
وكونوا على الأرض شعباً يريد
ويهتف قد راح ليل العبيد
وأثناء العدوان الثلاثي على مصر غني له “فريد الأطرش” أيضا قصيدة “بورسعيد” التى يقول في بدايتها:
بورسعيد .. بورسعيد، قِـبلة الشعب العتيد
أنتِ أذهلت الوجود، أنتِ سطرت الخلود
في كفاحك المجيد
بورسعيد .. بورسعيد، أنت يا رمز الفداء
أنت يا نور السماء، أنت في القلب دماء
أنت في السمع نشيد”
وغنت له “سعاد محمد” قصيدة “موكب الخالدين” ألحان “رياض السنباطي” والتى يقول مطلعها :
أقبل ندى الغار حلو الموكب
واسكب رحيق النور للفجر الصدى
واخطر على هذى الضفاف
وطر بها ركبا من الإشراق
واللحن الأبى
كما غنت له أيضا كلا من ” لوردكاش، فتحية أحمد، نجاة علي”، والمطرب السوري “نجيب السراج”.
اعتنقت الإسلام بسببه
فى نهاية الخمسينات قابل الدكتور “أحمد موسى” الأستاذ الجامعي والفنان التشكيلي الذى درس فى ألمانيا وشغل منصب المستشار الثقافي لمصر فى “بون” فى الفترة من عام “1974 حتى عام 1962″، وكان له نشاط ثقافي وفكري فى ألمانيا – كما يقول الأستاذ محمد رضوان – حتى أنه نجح فى تنفيذ فكرة بناء مسجد بمدينة “هامبورج”، وتزوج من السيدة ” دورثي” إبنة أحد كبار رجال الصناعة في “بون” وعاشت معه فى منطقة المعادي، وعزمه الدكتور “موسى” على صالونه الثقافي الذي يحضره نخبة من رجال الأدب والفن والثقافة والفكر، وبالفعل حضر “خميس” الصالون، وتوطدت علاقته بالدكتور “أحمد موسى” وحرمه ” دورثي” ودارات حوارات مطولة بينهما حول الإسلام ومبادئه وقيمه انتهت بإشهار إسلام السيدة “دورثي” فى الأزهر الشريف عام 1958 ،وغيرت إسمها إلى “درية”.
زواجه
فى بداية الستينات أعجب “أحمد خميس” بزميلة له تعمل معه فى التليفزيون المصري كمذيعة ومعدة ومخرجة اسمها “ليلى موسى” وعندما سأل عنها عرف إنها ابنه أستاذه الدكتور “أحمد موسى” وزوجته “دورثي أو درية” وسعد جدا بهذه المفاجأة وتقدم لخطبتها وبالفعل يتم زواجهما فى فبراير عام 1961 وينجبا ابنتهما “راندا”.
السينما
فى هذه الفترة أقبلت عليه السينما فقدم عدة أفلام هى “رسالة إلى الله، الأيدي الناعمة، الرجال لا يتزوجون الجميلات، وفاء إلى الأبد، الشيطان الصغير، عنتر بن شداد، أنا وهو وهى، العائلة الكريمة” وغيرها من الأفلام، وفى عام 1965 يسافر للعمل بالقسم العربي بإذاعة ألمانيا الشرقية ويصطحب زوجته وابنته، وأثناء عمله هناك تحدث النكسة، فيشعر بالانكسار والهزيمة فيقرر العودة إلى مصر عام 1968 ليواصل عطائه بالإذاعة المصرية كمدير عام بها، وفي عام 1970 رشح للعمل بإذاعة “كولونيا”، وعاش هناك مع زوجته وابنته لمدة ثلاث سنوات.
أكتوبر سبب عودته
عندما حدثت انتصارات حرب أكتوبر 1973 عاد إلى مصر ليعيش أجواء النصر والعزة والكرامة، وأنشد كما كتب الأستاذ محمد رضوان قصيدته “هنا القاهرة” التى يقول فيها :
ويهتف بي: “هاهنا القاهرة”
فهزي فؤادك يا شاعره
ومدي إلى الشمس روح المشوق
وعبي سنا الجنة الآسرة
ودوري على سبحات الفتون
مفتحة القلب والباصره
أحاديث ليست ببدء الحديث
وأنباؤنا مالها آخره
ويأتي الزمان ويمضي الزمان
وتبقي على الزمن القاهرة
وبعد عودته للقاهرة يعود لعمله فى الإذاعة المصرية، ويشارك فى بعض المسلسلات التليفزيونية والإذاعية، وعين فى مجلس الشورى، ويجمع بعض قصائده ورباعياته الشعرية لينشرها على نفقته الخاصة فى ديوان أسماه على اسم واحدة من أشهر قصائده” الروابي الخضر” عام 1995، كما شارك ببطولة العديد من الأعمال التليفزيونية أشهرها “رأفت الهجان، من الذي لا يحب فاطمة”.
النهاية
وعن هذا الشاعر يقول “محمد رضوان” صاحب كتاب “أحمد خميس شاعر الروابي الخضر”: تجاهل الوسط الثقافي هذا الشاعر الكبير طيلة حياته وبعد مماته إما خوفا من المنافسة، وإما لإتاحة المجال لشعراء قصيدة النثر ومدعى الحداثة الذين تكاثروا فى الساحة وهيمنوا على الحياة الثقافية، ويصاب “أحمد خميس” بالإحباط واليأس من هذا الجو الأدبي المراوغ الذى لا يعطيه حقه، لكنه استمسك بكرامته وعزة نفسه وهو يعيش فى صومعته الفكرية مع رفيقة عمره يشاهد التليفزيون ويستلهم بين الحين والآخر رباعية شعرية أو قصيدة جديدة يعبر فيها عن أحاسيسه ومشاعره الحية، ويظل هكذا يغالب الإهمال والمرض وقسوة الحياة الثقافية حتى يرحل فى صمت فى الخامس من شهر أكتوبر عام 2008 لتنتهي رحلة شاعر “الروابي الخضر” فى الحياة ليبقى شعره ثروة من المشاعر والأحاسيس والأخيلة الخالدة.
من أشهر رباعياته:
فى سجل العمر .. والسِفر النحيل
كل حى عاكفٌ .. يكمل سطره
وسواءٌ كان بعثاً .. أو رحيل
لن يزيد البحر أو ينقص قطرة
………………………………………
لو أتى من عالم الغيب شهيد
لو أعاد الموت خِلاً أو رفيق
لعرفنا .. ووعينا ما نريد
علها ترضى خطانا .. أو نفيق
………………………………………
مارد الأحقاد بالشر انطلق
عارماً يغتال أحلام البشر
نحن باركناه عند المنطلق
وهو لن يُبقى علينا .. أو يذر
………………………………………
كن حكيماً .. واستمع للعارفينا
فهُم الزاد .. وهم نِعمَ الرفيقُ
أهرقوا العمر التياعاً .. وحنينا
ثم صاحوا .. “أيها الحمقى .. أفيقوا “
……………………………………………………………………………………………………………………..
فنان الكاريكارتي “فرج حسن” يحكي
قصة لقائه بالفنان والشاعر “أحمد خميس” لتصميم غلاف ديوانه
عن ذكريات لقائه الأول بالفنان والشاعر “أحمد خميس” للاتفاق على تصميم الغلاف والرسومات الداخلية لديوانه الوحيد، يقول الفنان التشكيلي الكبير والمتميز “فرج حسن” : في البداية عرفني عليه أحد الأصدقاء المشتركين، وأعطاني رقم تليفونه، واتصلت به، وحدد لي موعد في شقته التى يقطنها بوسط البلد، ونظرا لعدم معرفتي بمزاج الشعراء اصطحبت معي زميلي الشاعر “بهاء جاهين” الذي كان ومازل معجبا بأشعار ” أحمد خميس”.
وعندما دخلنا شقته أحسست براحة نفسية كبيرة جدا، حيث وجدنا إضاءة خافتة، وموسيقى حالمة تنبعث من أرجاء الشقة، ورغم عدم حبي للإضاءة الخافتة لكنني بمجرد أن جلست أحببت جدا هذا ” الجو” الرومانسي الهادئ الذي يشبه الراحل، و حتى يزيل الحاجز النفسي والخجل عندي تحدث معي عن أشياء كثيرة، ومنها بالطبع حبه للفن التشكيلي، و الفنانيين التشكليين، وسألني عن أساتذتي، وبعد دقائق من الحوار المشترك بيننا أصبحت كأني أعرفه من سنين.
وأضاف ” فرج حسن”: بعد إنتهائي من الغلاف والرسومات الداخلية عرضتهما عليه وكان سعيدا جدا بهما، وكان يشبهني بكبار الفنانيين التشكليين، ووافقته الرأي السيدة ” ليلى خميس” زوجته مذيعة التليفزيون الرقيقة.
وعن أهم ما يميزه قال: دماثة الخلق، والصوت الهادئ الجميل، وكرمه، فأذكر أن المبلغ الذي طلبته منه بعد تصميمي للغلاف والرسومات الداخليه، أعطاني إياه، لم يناقشني فيه، ومن الأشياء التى أذكرها جيدا أن الشاعر “بهاء جاهين” كان معجبا جدا بالديوان خاصة الرباعيات الموجودة فيه، وقال له: هذه الرباعيات فى جمال رباعيات والدي الشاعر ” صلاح جاهين”، وبعضها يتفوق عليه
.…………………………………………………………………………………………………………………….
قال عنه الشاعر الكبير فاروق شوشه :
اختار “أحمد خميس” أن يكون الأقرب إلى نموذج الشاعر الملاح “علي محمود طه” في هيامه بالطبيعة والجمال، وبخاصة في رحلاته الصيفية المتتابعة إلي أوروبا، وبحثه عن مواطن الفتنة والانطلاق، وتصيد لحظات المتعة والنشوة.
ويبدو أن تغني الموسيقار “محمد عبد الوهاب” بقصيدتي علي محمود: “الجندول” و”كليوباترا” قد جعل من شعره نموذجا يستهوي الشعراء الشباب، يحاولون محاكاته وترسم خطاه، واقتباس صيغة الرباعيات التي اختارها لكثير من قصائده البديعة، وكان “أحمد خميس” من هؤلاء الشعراء الذين اجتذبهم هذا القالب الشعري يضمنه نفثات وجدانه وأشواق روحه.