

بقلم الكاتب الصحفي: أحمد الغريب
في خطوة مثيرة للجدل أثارت نقاشًا واسعًا، أعلنت الحكومة الإسرائيلية (29 ديسمبر 2025) مقاطعة صحيفة (هآرتس)، واحدة من أعرق الصحف في إسرائيل وأقدمها، بدعوى أن تغطياتها وتحليلاتها خلال الحرب الأخيرة على غزة أضرت بـ (شرعية إسرائيل وحقها في الدفاع عن النفس).
وتشمل هذه المقاطعة وقف التعاون التحريري والإعلاني معها، ودعوة الوزارات والهيئات الحكومية ووكالات الإعلانات إلى عدم التواصل بأي شكل من الأشكال مع الصحيفة.
هذه الخطوة دفعت الإعلاميين والسياسيين والمعنيين بحرية التعبير في إسرائيل إلى طرح أسئلة جوهرية حول علاقة السلطة بالصحافة في دولة تدّعي أنها ديمقراطية، ومدى قدرة الإعلام النقدي على التمتع بحقوقه الأساسية في زمن الحرب والأزمات.

صوت نقدي في المشهد الإسرائيلي
صحيفة (هآرتس) ليست مجرد صحيفة عادية، تأسست قبل أكثر من قرن، وتُعدّ واحدة من أعرق الصحف في إسرائيل، مع تاريخ طويل في نقد السياسات الرسمية، والتحقيق في ملفات حساسة تخص الحكومة والجيش.. وقد نالت احترامًا دوليًا لمستوى تقاريرها وتحليلاتها، خصوصًا فيما يتعلق بقضايا حقوق الإنسان والنزاعات الإقليمية، بما فيها الحرب في غزة، التي تُعد من أكثر الملفات تعقيدًا في المنطقة.
وتعتمد (هآرتس) على التغطية الصحفية الاستقصائية والنقدية، التي أقلقت مؤسسات القرار في إسرائيل، ليس فقط لأنها تسلط الضوء على نقاط ضعفها، بل لأنها تنقل أصواتًا تتحدى الرواية الرسمية، وتطرح وجهات نظر تختلف جذريًا مع الخطاب الحكومي المهيمن.
وقد تمثل ذلك في تقارير صحفية نقلت تحقيقات حول الخسائر البشرية في غزة، وتقارير عن ممارسات الجيش، وغيرها من المواد التي أثارت جدلًا داخليًا ودوليًا.
ردة فعل الحكومة الإسرائيلية.


الإعلام والديمقراطية الزائفة
الحكومة الإسرائيلية، وفي بيانها الرسمي، قالت إنها لن تقبل بـ (وضع يدعو فيه ناشر صحيفة رسمية في الدولة إلى فرض عقوبات عليها، ويدعم أعداء الدولة خلال الحرب)، معتبرة أن بعض التصريحات – ولا سيما تلك التي نسبت إلى صاحب الصحيفة (عاموس شوكن) – قد أعطت صورة سلبية للغاية عن مواقف إسرائيل وأهدافها في النزاع.
وبالطبع هذا الموقف ليس طارئًا بالكامل. فقد علق وزيران إسرائيليان في وقت سابق علاقاتهما مع (هآرتس) بعد تصريحات مثيرة للجدل حول وصف الفلسطينيين بأنهم (مقاتلون من أجل الحرية)، ودفعت تلك التصريحات الصحيفة إلى التراجع ونفي الأوصاف، لكنها أدّت إلى توترات إضافية مع الحكومة.
إضافة إلى المقاطعة، هناك حراك تشريعي واسع في إسرائيل يسعى لتوسيع صلاحيات الحكومة في التعامل مع وسائل الإعلام، بما في ذلك مشروع قانون يسمح للحكومة بحظر وسائل إعلام أجنبية إذا اعتُبرت تهديدًا للأمن القومي، وهو ما أثار قلق منظمات حقوقية دولية حول حرية الصحافة.
قضية (هآرتس) ليست منعزلة عن مناخ سياسي وتحولات في علاقة الدولة بالإعلام. بل تندرج ضمن نمط أوسع من التوتر بين السلطة وحرية الصحافة في إسرائيل، خاصة في ظل الحروب والمواجهات الطويلة.
ففي ديسمبر 2025 أيضًا، صادقت الحكومة على خطوة إغلاق إذاعة الجيش الإسرائيلي بحجة أنها تبث محتوى (يتعارض مع القيم العسكرية)، ما أثار انتقادات من المعارضين باعتباره خطوة أخرى نحو تقييد حرية التعبير.
وقد أشارت بعض التقارير إلى أن الرقابة العسكرية على الإعلام الإسرائيلي وصلت إلى أعلى مستوياتها في السنوات الأخيرة، مع سحب أو تعديل عشرات التقارير الإخبارية يوميًا، وهو ما يدل على رقابة مشددة تمارسها السلطات على ما يُنشر حول جوانب حساسة، خاصة المتعلقة بالنزاع مع الفلسطينيين.
في هذا الإطار، يرى بعض المراقبين أن التوتر بين الحكومة ووسائل الإعلام الحُرة هو مؤشر على أزمة أوسع في المشهد الديمقراطي الإسرائيلي، إذ تحاول السلطات التأثير على محتوى الأخبار أو توجيهها بما يتماشى مع الأجندة الرسمية، خاصة في زمن الحرب.. وهذا يثير تساؤلات حول حدود حرية الإعلام في دولة تعد نفسها ديمقراطية، وتفتخر بتاريخ طويل من الصحافة الحرة.

في مواجهة الضغوط السياسية
من وجهة نظر حقوقية وإعلامية إسرائيلية، فإن الضغط على الصحافة، وخصوصًا الصحافة النقدية، يحمل أثرًا عميقًا على الديمقراطية نفسها، فالصحافة الحرّة ليست مجرد ناقل للأخبار، بل هى أداة رقابية تُمكّن المواطنين من الوصول إلى المعلومات الكاملة والمتوازنة، وتتيح للأقليات والأصوات المخالفة أن تُسمع في الفضاء العام.
وتقاطع الحكومة لهآرتس، خصوصًا إذا تضمن منع الإعلانات وقطع العلاقات الرسمية، يمكن أن يكون له تأثير مالي وتشغيلي كبير على الصحيفة، يمكن أن يُضعف استقلاليتها ويعرضها لضغوط اقتصادية إضافية.. وهذا ما أثار قلقًا لدى منظمات إعلامية دولية، مثل الاتحاد الدولي للصحفيين، التي عبرت عن مخاوفها من استخدام دعاوى الأمن الوطني ذريعة لقمع الصحافة النقدية.
هناك بالطبع من يرى داخل إسرائيل أن الحكومة لها الحق في أن تدافع عن نفسها وتردّ على ما تعتبره تغطيات مسيئة أو مضللة، وعليه فإن مقاطعة صحيفة (هآرتس) تطرح تساؤلات هامة: هل يمكن للحكومة الإسرائيلية أن تقيد حرية الإعلام بذريعة حماية الأمن القومي؟ وإلى أي حد يجب أن تكون السلطة محاطة بالشفافية والمساءلة من قبل الصحافة؟
وهل تؤدي مثل هذه الإجراءات في النهاية إلى إضعاف الديمقراطية بدلًا من تعزيزها؟ ومع استمرار توتر المشهد الإسرائيلي الداخلي، يبقى اختبار قدرة المؤسسات الإعلامية الإسرائيلية على مواجهة التحديات الجديدة، في دولة زائفة طالما ادعت كذباً إنها واحة الديموقراطية في منطقة الشرق الأوسط.