رئيس مجلس الادارة : محمد حبوشة
رئيس التحرير : أحمد السماحي

بهاء الدين يوسف يكتب: فيلم (الست).. اجتهاد درامي لتشويه قيمة فنية مصرية

بهاء الدين يوسف يكتب: فيلم (الست).. اجتهاد درامي لتشويه قيمة فنية مصرية
سيناريو فيلم (الست) حائر بين كونه سيرة توثيقية وسيرة درامية

بقلم الكاتب الصحفي: بهاء الدين يوسف

لم أكن متحمسا لفيلم (الست) منذ بدء الحديث عن إنتاجه قبل عام أو أكثر، بداية من عدم الارتياح لاختيار (منى زكي) لتجسيد دور أم كلثوم، حيث رأيت فيه من المجاملة أكثر بكثير مما فيه من الاختيار الموضوعي، باعتبار أنها لا تملك مساحة تشابه واحدة مع كوكب الشرق سواء في الشكل أو الأداء أو الروح.

فمثلا لا تستطيع (منى زكي) التي تربت في القاهرة، تقديم نفس إحساس الخوف الممزوج بالانبهار والتحدي الذي انتاب أم كلثوم الفتاة الريفية البسيطة حين جاءت إلى القاهرة لأول مرة، ثم حين تعاملت مع أسماء لامعة كانت تسمع عنها في حكايات العائدين من العاصمة إلى قريتها البعيدة.

أتذكر في نفس السياق الهجوم العنيف الذي قوبل به المخرج الراحل يوسف شاهين وفيلمه (اليوم السادس) في ثمانينات القرن الماضي، حين أسند دور البطولة فيه للنجمة (داليدا)، التي عاشت معظم حياتها في فرنسا واشتهرت كمغنية فرنسية ذات أصل مصري.

كان سبب الهجوم على المخرج العبقري وقتها أن شخصية (صديقة) بطلة الفيلم التي تجسدها داليدا هى سيدة من حي شعبي مصري، تتحدث وتتصرف مثل السيدات المصريات البسطاء، بينما كانت داليدا تنطق العربية بلكنة فرنسية وهو ما تسبب في إخفاقها في إقناع المشاهدين بالشخصية.

بهاء الدين يوسف يكتب: فيلم (الست).. اجتهاد درامي لتشويه قيمة فنية مصرية
فشل (أحمد مراد) بشكل واضح في وضع يده على الخيط الدرامي الذي يريد إبرازه أو التركيز عليه

سيناريو ضعيف ومفكك

في فيلم (الست) فاقم السيناريو الضعيف والمفكك والحائر في أزمة (منى زكي)، حيث فشل (أحمد مراد) بشكل واضح في وضع يده على الخيط الدرامي الذي يريد إبرازه أو التركيز عليه، فقرر بدلا من ذلك تقديم استعراض شديد السطحية لحياة أم كلثوم.

فكيف يمكن لأي سيناريست مهما بلغت عبقريته أن يحكي في فيلم مدته ساعتين أو ثلاثة، قصة حياة واحدة من أهم الفنانين في تاريخ الموسيقى والغناء العالمي؟!، والأهم من ذلك لماذا يريد أي سيناريست أن يكتب قصة حياة (أم كلثوم كاملة من الأصل)، وهل الهدف هو تقديم عمل توثيقي لحياة الست أم عملا دراميا؟!

الملاحظة المبدئية أن سيناريو فيلم (الست) حائر بين كونه سيرة توثيقية وسيرة درامية، وربما تكون الحيرة مصطنعة من أجل حشو السيناريو بما يحلو لكاتبه من أحداث دون تدقيق تاريخي يستوجبه العمل التوثيقي، وقد وقع بالفعل في أخطاء تاريخية عديدة في الفيلم.

كما أن التعامل مع سيناريو فيلم (الست) باعتباره عملا دراميا كان يوجب على كاتبه إبراز الخيط الدرامي الذي يربط أحداث الفيلم، وهو ما لم يكن موجودا او على الاقل لم يكن واضحا للمشاهدين، والاهم من ذلك الخلط والارتباك، تجاهل السيناريست معيارا واضحا في تناول السير الذاتية لشخصيات عامة، وهى تجنب (الفضائحية المجانية).

بهاء الدين يوسف يكتب: فيلم (الست).. اجتهاد درامي لتشويه قيمة فنية مصرية
ما هي دوافع انتاج فيلم ضخم عن أم كلثوم بميزانية خرافية في هذا التوقيت؟!

أعراف مهنية وأخلاقية

سواء كان العمل توثيقيا أو دراميا، هناك مجموعة أعراف مهنية وأخلاقية تحكم الكتابة، وتوازن بين الحرية الفنية والمسؤولية التاريخية، ما يعنينا منها هنا معيار عدم تشويه الوقائع الجوهرية أو اختلاق أحداث تغير فهم الجمهور للشخصية أو عصرها.

وحتى في الثقافة الغربية، حيث تخضع الشخصيات العامة هناك لتدقيق أوسع في حياتها وقراراتها وصراعاتها، طالما كانت هذه الجوانب مرتبطة بتأثيرها العام، بما يستوجب وجود صلة واضحة بين ما يعرض وما يريد العمل تفسيره.

وفي حالة عدم وضوح هذه الصلة يكون العمل قد وقع في هوة تعرف في الغرب بكونها (الفضائحية المجانية)، وهى الكشف عن أسرار شخصية من حياة صاحب السيرة الذاتية، دون مبرر درامي مقنع، وهذه الهوة هي ما وقع فيها سيناريو فيلم (الست) بحسب ما شاهدته.

ناهيك عن الإساءة البالغة التي اجتهد السيناريست في إلصاقها بأم كلثوم وتاريخها، واختزال مشوارها الفني والإنساني العظيم الذي لا يضاهيه مشوار فنان آخر في كل الدول العربية والكثير من دول العالم، في كونها إنسانة غير متزنة، أنانية وجائعة للشهرة والبقاء تحت الأضواء والقرب من السلطة، ومعظمها صفات غير مثبتة في أي سياق تناول جوانب من حياة أم كلثوم.

في النهاية لا يمكن أن نختلف على أن العمل الفني بتفاصيله حق أصيل لأصحابه، مثلما أن من حق أي مشاهد أو ناقد أن يقبل به أو يرفضه، لكن السؤال الذي لم أجد له إجابة حتى الآن، بعيدا عن نظريات المؤامرة المنتشرة على مواقع التواصل الاجتماعي، ما هي دوافع انتاج فيلم ضخم عن أم كلثوم بميزانية خرافية في هذا التوقيت؟!

إذا كان الهدف هو النيل من قيمة الفن والقوة الناعمة المصرية عبر تشويه كوكب الشرق التي تعد واحدة من أهم رموزها، فأخشى أن الهدف لم يتحقق لأن ذاكرة الشعوب تحمل من الصدق والإنصاف ما يمكنها من الحكم على الأشخاص، ومن ثم تصديق أو عدم تصديق ما يقال عنهم.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.