

بقلم الكاتب الصحفي: محمود حسونة
حالة الجدل التي سبقت عرض فيلم (الست) استهجنها البعض رغم أنها حالة صحية تعكس خوف المصريين من العبث برموزهم، فشعبنا هو الحارس على رموزه والحريص على عدم العبث بسيرتهم والنيل من صورتهم الذهنية.
وهو شعب لديه من الفراسة ما يمكنه من توقع الكوارث قبل وقوعها وفضح المتجاوزين في حق رموزه ومنع التجاوز أو الحد من تأثيره، وعندما يتعلق الأمر بأم كلثوم فمن الطبيعي أن يكون الجدل محتدماً، خاصة وأنها (الست)، و(كوكب الشرق)، و(سيدة الغناء العربي).
وهى التجسيد الحقيقي لقوة وصلابة المرأة المصرية وقدرتها على تحدي الصعاب لتحقيق ذاتها وجعل المستحيل ممكناً، وعندما يتم تقديم جوانب من حياة (أم كلثوم) في فيلم سينمائي يخرجه موهوب مثل مروان حامد، ويشارك فيه كوكبة من أهم نجوم التمثيل.
يتضاعف الجدل خوفاً من وقوع هذه الأسماء في الفخ أو عدم التوفيق في تقديم الصورة المنتظرة عن هذا الرمز الخالد والذي لايزال يستحوذ على آذان ومشاعر الملايين من عشاق الطرب ووعيهم بقيمة أم كلثوم وعدم قبولهم أي محاولات للمساس بها، وهو ما أنقذ سيدة الغناء من المصيدة التي استهدفوا صيد سمعتها بها.
مؤسف أن فنانينا وقعوا في الفخ، وأعتقد أن ذلك تم بإرادتهم، وإلا فإنهم فاقدين للوعي وعاجزين عن استيعاب عواقب أفعالهم، مجرد أدوات أو قطع شطرنج حركها أحدهم كيفما شاء، يستخدمهم لهدم رموز كانت دوماً مصدر فخرنا واعتزازنا.
وهو ما يلمسه المشاهد اليقظ الذي يذهب لمشاهدة فيلم (الست)، ولا تأخذه حرفية الإخراج من التركيز على المضمون، حيث سيجد فيلماً ممتعاً بصرياً، ولكن مسموم المحتوى.

مضمون الفيلم المسموم
إنه دس السم في العسل، للإيهام بأنهم يقدمون عملاً تكريمياً لسيدة شكلت الوجدان العربي والتفت حول فنها الشعوبن وتجاوز محبوها المحيط والبحر والخليج لتكون أيقونة يتباهى بها كل عربي أمام العالم، ولكنه في الحقيقة فيلم يستهدف هدم الأيقونة وتحطيم الأسطورة وتشويه الصورة الذهنية.
وكأن (التريلر) الترويجي قبل عرض فيلم (الست)، لم يكن هدفه الترويج للفيلم بل إثارة الجدل حول مدى نجاح (منى زكي) في تجسيد شخصية أم كلثوم، لإغراق الناس في هذه الجزئية وصرفهم عن مضمون الفيلم المسموم.
ورغم أننا ذهبنا لمشاهدته فلم نجد لا (منى زكي) التي نحترم موهبتها ولا (أم كلثوم) التي نعرفها ونعرف تفاصيلها الإنسانية والفنية، ولكننا وجدنا امرأة مشوهة، مدمَرة ومدمِرة، أنانية ومغرورة، تعبد المال ولا تقيم للبشر وزناً، انعزالية انفعالية متذمرة، سليطة اللسان وسيئة التعامل، كئيبة ومتهالكة، بلا مشاعر ولا أحاسيس، جشعة ومفجوعة، ومدخنة بشراهة.
(منى زكي) سلمت نفسها لمن قيدوها فنياً وحولوها بالماكياج إلى روبوت بلا مشاعر وليست بينه وبين (أم كلثوم) أي علاقة في الشكل، أما بالنسبة للروح فالفيلم كله في حالة عداء لروح (الست) الحقيقية، ولأن الأخطاء تهون أمام الخطايا، فلا ينبغي الانشغال بمدى نجاح أو فشل منى زكي وباقي الممثلين.
ولا ينبغي الانشغال بتقييم الفيلم فنياً، والأهم الآن هى الرسالة المستهدفة من وراء مضمون لا نعرف من أين أتى به أحمد مراد، وهل صحيح هو الذي كتب الفيلم أم أنه أملي عليه؟!
سواءً هذا الفيلم رؤية وكتابة (أحمد مراد) أو كتابته فقط حسب المطلوب، فإنه يخلخل صورة هذا الكاتب بعد أن نال تقديراً من الجمهور، والجمهور المستهدف تشويه صورة (أم كلثوم) عنده هو جمهور الشباب، هو الذي يذهب إلى السينما وهو الذي لا يعرف سوى أقل القليل عن الست، وهو الذي تغير ذوقه ولا يشغله التطريب في الغناء.
وبالتالي فإن إسقاط (أم كلثوم) من عرشها ينبغي أن يبدأ بحشو عقول الأجيال الشابة بصورة سلبية عنها، ومحاصرة كبار السن الذين يعرفونها ولا يقبلون بديلاً عنها على عرش الغناء، رغم وفاتها قبل 50 عاماً، حتى تشييد جدار العزل الكامل لها عن محبيها وعشاق الأصالة.
ولكي يدخل السم إلى الجسد المصري بسهولة ويحقق مفعوله كان لا بد من دسه في العسل، والعسل ليس فن السينما فقط، ولكن أيضاً مشهد البداية، والخاص بحفل الأولمبيا في باريس، وتقديم أم كلثوم فيه بصورتها الحقيقية كمعشوقة من عشاق الطرب في جميع أنحاء العالم وليس العالم العربي فقط.

في ذروة المجد يتحقق السقوط
جاء إلى الحفل جمهور من دول مختلفة بينهم ملوك ووزراء وسفراء وسادة مجتمعات وشباب مثقف، الكل استمع وأنصت وصفق وهتف، وفي ذروة المجد يتحقق السقوط، مشهد يلخص حقيقة أم كلثوم وهدف الفيلم في آن واحد.
بعد السقوط يبدأ تحطيم الصورة بالفلاش باك، بتقديم مشاهد عنها تعبر عن مراحلها العمرية المختلفة من دون أي ترابط بين هذه المشاهد التي تدور خلال 70 عاماً، فالمهم ليس وحدة الموضوع ولا انتقاء جانب من حياة أم كلثوم للإضاءة عليه، ولكن المهم هو تقديمها منذ الطفولة أنانية تبصق في زجاجة الكازوزة حتى لا يشرب منها شقيقها خالد، بفطرتها تعشق المال.
ويبدو ذلك في مشهد قبضها على القرش في يدها رغم الأمطار والعواصف، متسلطة تحرج والدها أمام الموسيقيين، انتهازية تستغل كل من حولها للوصول إلى أهدافها، مرعبة لمن حولها، أهلها يخافون منها، تشك في كل الناس بما في ذلك شقيقها، متعالية على العازفين وشتامة وسبابة لهم، غليظة القول مع من حولها ولا تقيم للناس وزناً.
أصبحت نقيبة للموسيقيين بترهيب وتهديد الأعضاء في رزقهم، قدمت أغنية (مصر التي في خاطري) أمام عبدالناصر بالإجبار وأخطأت فيها ثلاث مرات لأنها لم تكن تغني من قلبها، فالوطن لا يعنيها.
مهزوزة أمام السلطة وهو ما تم تجسيده وهي تسلم على ناصر، وحتى حفلات المجهود الحربي كانت بحثاً عن مجد شخصي، منعزلة وعاشت وحيدة، مكتئبة كل الوقت، مريضة وموتورة، أما بالنسبة لأهلها فوالدها الشيخ البلتاجي انتهازي استغلها ليتكسب من ورائها!!
مشاهد لا رابط بينها، ولا تحمل سوى حقد أسود على (الست) تلك السيدة التاي ملأت الدنيا حباً وعلى دولة هى الأقدم في التاريخ وصاحبة الحضارة الإنسانية الأعظم، وعلى فن احترم المشاعر وحلق بالأحاسيس عاليا.
والمحزن أن بعض فنانينا وللأسف مخرجينا ونقادنا انبروا للدفاع عن الفيلم ومهاجمة من يهاجمونه، مجاملة لبطلته (منى زكي) ومخرجه مروان حامد، وكأنهم لم يستوعبوا الفيلم ولم يعوا رسالته الخبيثة، ولا يدركون أن (منى ومروان) لم يكونوا سوى أدوات لهدم رمز مصري كبير، والساعي لهدم هذا الرمز لا يستهدفه وحده بل يستهدفهم جميعاً وبينهم صناع الفيلم أنفسهم.
(أم كلثوم) لم تكن ملاكاً مثلما ظهرت في أعمال فنية سابقة ولا شيطاناً كما قدمها (الست) ولكنها إنسان يخطئ ويصيب، وكوكب الشرق التي نعرفها ونسمعها ونقرأ عنها ونشاهد البرامج التي استضافتها غير تلك التي شاهدناها في الفيلم.
وهو ما يؤكد أنه فيلم يستهدف تحطيم الأسطورة وكسر هيبة وجلال سيدة الغناء العربي، والطعن في قيمها ومبادئها، وتأكيد أن رموز مصر ليسوا سوى رموز من ورق يمكن لأي صاحب مال أن يشتري من يشاء ويكلفهم النفخ فيها لتطير في الهواء وتندثر تنفيذاً لإرادته.