

بقلم الكاتب الصحفي: محمد حبوشة
شاهدت باستمتاع، العرض المسرحي (الميوزكل) الفاتن في فكرته، الصادق في تفاصيله التي تحيط بحياة كوكب الشرق، والذي حمل عنوان: (أم كلثوم.. دايبين في صوت الست)، حيث يستعرض مراحل حياتها، والأجمل أن فريق العمل صنعوا حالة خارج العرض، في صورة أركان مختلفة ترصد مراحل حياة أم كلثوم: (ملابسها، صورها: طفلة وصبية وناضجة، وأخرى يحيط بها رواد التلحين)، وغيرها مما تتعلق بتراث الست.
على جنبات الطرقات المؤدية إلى صالة العرض، تغمرك حتما سعادة غامرة وأنت تتأهب لدخول المسرح، حيث تحيط بك الذكريات القادمة من عمق التاريخ، على جناح الشجن المبطن برحيق أغان ماتزال تسكن الذاكرة، وذلك بتوظيف تكنولوجي متطور جدا.
ما أن تطأ قدماك صالة العرض، تحملك على الفور موسيقى أغاني (الست) على بساط سحري، قبل رفع الستار، لتؤهلك للدخول إلى الولوج لعوالم أسطورة الطرب المصري (أم كلثوم)، وبنص متقن للشاعر والكاتب الكبير (مدحت العدل)، تغرق في التفاصيل التي صممت على الخشبة بطريقة غاية في الروعة والإبهار، فهو يستحضر لك روح (أم كلثوم)، وكأنها تتجسد أمامك على الخشبة بشحمها ولحمها وبهاء طلتها الآسرة.
وسرعان ما تتوالي الأحداث المصنوعة بعناية شديدة، وبحس روحي يسحبك هذا البساط السحري إلى ريف مصر، الذي شهد ميلاد موهبة فذة اسمها (أم كلثوم)، حيث تجوب القرى والنجوع، حاملة بين جوانحها شجنا محببا تسترق له القلوب التواقة للنغم الصادق، والحس الفكاهي الفطري الذي لازم الست (أم كلثوم)، طفلة وصبية حتى رحيلها، تاركة تراثا غنائيا زاخرا مازال يسكن الوجدان المصري والعربي.
عبر تفاصيل الأحداث المصحوبة بالغناء، ربما تلمس أداء احترافيا جميلا رائقا، رغم أن 70% من فريق التميثل لم يسبق اعتلاء الخشبة – على عهدة مدحت العدل – لكن المخرج (أﺣﻣد ﻓؤاد)، والموسيقى والألحان لخالد الكمار، وإيهاب عبدالواحد، في تناغم دقيق جدا، استطاعو أن يصحبوا الجمهور في رحلة ممتعة على ممر الزمان والمكان.

وفاء المستمع العربى لـ (أم كلثوم)
لقد أثبت فريق عمل المسرحية، أنه على الرغم من التنوع الكبير للأغنية العربية المعاصرة، وارتباطها بفنون الفيديو كليب، وإبهار التكنولوجيا الحديثة، لكن ظل المستمع العربى وفيا لـ (أم كلثوم) مرتبطا بأغانيها الوصفية والعاطفية التى تتحلى بالشجن والطرب المشبع بروح الشرق الأصيل، وبتجلياتها الوطنية التى لا تغيب عن خاطر كل عربي، كما عبر عنه (مدحت العدل) في نصه.
لم يكن ما قدمته تلك الفلاحة البسيطة ابنة قرية (طماي الزهايرة)، بمحافظة الدقهلية، التى ولدت مع إشراقات القرن العشرين مجرد مفردات شعرية ترددها موصولة بالموسيقى فقط، بل إنها رسمت بصوتها الآسر للقلوب والعقول حياة ثقافية بكاملها، وخطت بآهاتها قلوب الملايين لترفع مستوى الذوق العربى إلى عنان السماء، وهو ما تجلي في الأغنيات القديمة والحديثة التي صاحبت أحداث العرض المسرحي.
تبدو (أم كلثوم)، وهى طفلة كما جسدتها (ملك أحمد) محلقة كحمامة بيضاء فى الآفاق القريبة والبعيدة، تسمو معها الروح التواقة للعشق تارة، وتارة أخرى كالنسر المتمرد فى طيرانه – على قدر براءتها – نحو ميادين الحرية والنضال من أجل الوطن، والذي يبدو أنه كان متأصلا في شخصية (أم كلثوم) منذ الصغر.
بحسه الشعري المشبع بتراب هذا الوطن، جعلنا (مدحت العدل) نفخر بشيء ما فى حياتنا المليئة بخيبات الأمل المتلاحقة والانكسارات العظمى، وعبر بنصه المصنوع بأنامل ماسية عن الحالة كاملة، إلى حد أن جعلنا نستحضر (أم كلثوم) واقفة فى شموخ غير معهود على مسرحها العظيم، مالكة الدنيا للحظات من المتعة اللانهائية، تعيد وتكرر مرات ومرات، ويتعذب الجمهور المتلذذ بألمه.
وفى جملل غير متوقعة يفجر المفاجآت تلو الأخرى، بقدرة صوتية خارقة من جانب الفنانة (أسماء الجمل) – التي تجسد أم كلثوم كبيرة – فينفجر المكان بالتصفيق، وتنهمر الدموع المتلهفة، وتتمايل الأجساد السكرى بالمتعة بتأثير قوتها المغناطيسية الجميلة المستمدة من روح (أم كلثوم).
عبر فصلين كاملين تمكن (مدحت العدل) من استلهام صوت (أم كلثوم) الخارق للطبيعة، وحنجرتها الذهبية، ودماء الفن الأصيل التى تجرى فى عروقها ليجعل منها أسطورة لا تموت، وشمس الأصيل التى لا تغيب، وهى التى شدت على خشبات المسارح لستة عقود كاملة، فى ظاهرة فنية فريدة على المستوى العالم بأسره.
الإخراج بدا لي متمكنا في حركة الممثلين في انسجام تام مع الأغاني المصاحبة للأحداث، والموسيقى كانت معبرة في ذهابها إلى مناطق مجهولة تلامس حياة (أم كلثوم)، والديكور والملابس عبر بصدق عن أجواء عوالم (الست) في مراحل تطورها ونضجها، والإضاءة كانت مضبوطة لتناسب الدراما في حياتها، فقد لاحظت أنها تترك فراغا أسودا كبير في المسرح، وتسط الضوء على شخصيىة أم كلثوم بتكثيف محكم.

أداء مفعم بالعذوبة
لقد استمعت كثيرا بأداء كل الممثلين المشاركين بالعرض وعلى رأسهم (أسماء الجمل)، حيث استطاعت في مجمل أدائها وغنائها (قديم وحديث) خلط مزيج من الألحان والكلمات والآهات التى جعلت (أم كلثوم) تتربع على عرش الذائقة العربية السليمة، بفضل مايخرج من فمها ليعكس عبقريتها، وكأنها ألحان أسطورية آتية لتوها من أعماق جنان الخلد.
أيضا (سعيد سلمان) في دور أحمد رامي، ولو أنه بالغ في بعض المواقف بأداء يضع (رامي) في خانة الخفة في قوالب كوميدية، وهى عكس طبيعته الرصينة، وربما عمد نص (مدحت العدل) إلى ذلك لكشف جوانب خفية في حياة (رامي).
(أحمد الحجار)، كان فاكهة العرض في دور محمد عبد الوهاب، حيث صال وجال في شخصية (عبد الوهاب) في طريقة مشيته، وجلسته، وعزفه على العود، وسخريته اللاذعة، ليفجر المواقف والمفارقات الفكاهية التي اشتهر بها عبد الوهاب مع أحبائه وغرامائه على حد سواء.
بدت لي (ليديا لوتشيانو) بارعة في تجسيد شخصية (منيرة المهدية)، في تحديها وانكسارها، والغناء بشكل هيستري يفضح حالة الغيرة القاتلة، حين أصابتها لعنة (أم كلثوم)، لتخرج عن طورها في توجيه الشتائم واللعنات في محاولة لإيقاف الزمن عندها وحدها لا غيرها.
(مدحت العدل) أكد في نصه الحواري في بساطة، وفي نصه الشعري في سمو غير معهود، أن (أم كلثوم) لم تكن سيدة عادية، أو مجرد مطربة عابرة فى ذاكرة الفن العالمي، بل أسطورة غنائية يصعب تكرارها فى الأمة العربية، كما تجسد من خلال الكتابة التي ترسخ للهالة الشخصية لأم كلثوم التي تملك تأثير طاغية على الشخصيات المحيطة بها.
أعجبي أيضا (فتحي ناصر) في دور (بليغ حمدي) في خفة روحه ورشاقته وطاقته الحيوية، التي تعكس عبقريته الموسيقية التي غيرت ملا مح الموسيقى المصرية، حتى أنه استطاع أن يرقص أم كلثوم على أنغامه القادمة من نبع فياض بالأرتام.
ولا يخلو أداء كل من (يوسف سلامة) في دور محمد القصبحي من متعة، وأيضا (عمر صلاح الدين) في دور (إبراهيم البلتاجي)، (ومنار الشاذلي) في دور سيدة البلتاجي، أخت أم كلثوم، وكذلك الحال مع (عماد إسماعيل) في دور الشيخ أبو العلا محمد، أيضا أوجه التحية الإعجاب لباقي فريق العمل كل في موقعه.

روح كوكب الشرق
ونحن نودع 2025، الذي شهد على ذكرى مرور خمسة عقود على رحليها، أعاد لنا (مدحت العدل) في مسرحية (أم كلثوم.. دايبين في صوت الست) روح كوكب الشرق، ليؤكد – عبر أكثر من ساعتين – أنها ماتزال تسكن بيوتنا وتقطن مشاعرنا، ومن فيض غنائها نستلهم أجمل قصص الحب والعشق والغرام، ومن سناها عطرا يسطر أروع ملاحم الوطنية فى كل تجلياتها.
يبدو لي أن (مدحت العدل) عمد في نصه عن (أم كلثوم) ليشير إلى: إثبات أنها ماتزال تطل برأسها من تحت التراب من حين لآخر، حاملة منديلها الشهير، تمنحنا قبلة الحياة، حين تميل الدفة فى زمن انهيار الغناء الحديث، بدليل هذا الإقبال الواسع حتى الآن على سماع أغانى كوكب الشرق، والانتقال من الحالة البصرية للأغنية العربية المعاصرة إلى الحالة السمعية الخاصة التى تتحلى بالسلطنة والشجن.
وكأن الزمن عند (مدحت العدل) نفسه يقف عاجزا أمام سيدة الغناء العربى، فينحنى لها إجلالا، ويسمح لها بالخلود فى القمة، ولسان حالنا يردد فى صمت موح: (زمنُ أيّ شيء هذا الذى نعيشه، ليتنا لم نعش لنقارن، أو ليتنا ولدنا فى زمن الانحدار كى نرى كل هذا الهبوط صعوداً).
المسرحية الممتعة (أم كلثوم.. دابين في صوت الست)، جعلتنا نعيش حالة من البهجة الخاصة مستمدة من عوالم (أم كلثوم) السحرية، ونغوص فى أعماق إبداعها المقرون بجدية لا تخلو من فكاهة، ودعابة فطرية غير مصطنعة، نكشف من مشهد إلى آخر الخفايا والأسرار ونرصد المفارقات، ونحن نقف على أعتاب زمن جيل الفتوة المصرية لينفرد (العدل) بسرد تفاصيل جديدة لأول مرة.

فرط إبداع الجيل الذهبى
نحن هنا لا نبكى على أطلال زمن مضى، أو نتشدق بذكريات ماتزال راسخة فى نتلمس فقط نوعا من الدفء المفقود عمق الذاكرة الحية لجموع المصريين والعرب، على جناح المتعة والشجن الذى يظل يلمع بريقه الفاتن الآخاذ يوما بعد يوم، بل نتلمس فقط نوعا من الدفء المفقود فى فن جيل مضى، لكنه مازال حيا فينا، وعلى زحمة الحياة وقسوتها وجبروت اللحظات المرة.
ومن هنا تأتي مسرحية (أم كلثوم.. دايبين في صوت الست) لتكون واحة من الأمن والأمان الغنائي العذب في ظل الشاشات المخضبة بالدماء، لتلفتنا إلى هذا الفن القادم من فرط إبداع الجيل الذهبى، على رأسهم أسطورة مصر الغنائية (أم كلثوم)، ذلك الإبداع الذي يستطيع بعذوبته أن ينتشلك بخفى حنين من قتامة المشهد، والذهاب بك إلى آفاق رومانسية ووطنية رحبة.
ورغم ما تشهده الساحة من طنطنة غنائية حتما لا تشفى الصدور، بل فى أغلبها تغرد خارج السرب، شدد (مدحت العدل) في نصه البديع، على أنه رغم نعيق الغربان التي تجوب خراب الفضاء العربى المخيف، يمكن لفن (أم كلثوم) أن يفتح لنا نافذة مشرعة للهروب إلى الماضى الجميل، ذلك الذى يكمن فيه الخلود مقترنا بالعبقرية والابتكار على مستوى الزمان والمكان والإنسان.
الخلاصة: أن (مدحت العدل) منحنا فرصة لنعود قليلا إلى الوراء، لنقف على أعتاب سر خلود (أم كلثوم)، التى لاتزال تتصدر سوق الكاسيت حتى يومنا الحالى، على جناح رومانسية ووطنية زمن مضى، أو راح وانتهى، فضلا عن 16 أغنية جديدة، ومن ثم ندرك أن كوكب الشرق ستظل خالدة عبر الزمن، شاهدة على شموخ وعبقرية رموز هذا الوطن المسكون بروح الفن الأصيل.