رئيس مجلس الادارة : محمد حبوشة
رئيس التحرير : أحمد السماحي

رسمي فتح الله يكتب: لماذا تفشل قصص (السيرة الذاتية) سينمائيًا؟

رسمي فتح الله يكتب: لماذا تفشل قصص (السيرة الذاتية) سينمائيًا؟
أحمد زكي حين قدّم السادات لم يكرر الصوت فحسب

بقلم الكاتب الصحفي: رسمى فتح الله

سؤال يبدو بسيطًا في ظاهره، لكنه حين يوضع على طاولة الفحص يتكشف عن عيوب مركّبة في السرد والتناول والأداء، وكأن (السيرة الذاتية) – التي يفترض أنها أقرب الطرق إلى الحقيقة – تصبح في الفن أصعب المسالك للوصول إلى الصدق.

القضية ليست جديدة، لكنها تتجدد مع كل عمل جديد ينتسب إلى (السيرة الذاتية) نخرج من قاعة السينما أو من أمام شاشة التلفزيون ونحن نشعر بشيء ناقص: روح الشخصية لم تهبط على الممثل، أو أن الحياة الواسعة خُنقت داخل إطار ضيق، أو أن العمل كله بدا كدرس مدرسي عن رجل عاش ومات.. دون أي نبض.

هنا يظهر السؤال العميق: أين يقع الخلل؟

أولًا: أزمة السرد.. حين تضيع الحكاية في (تجميل) التاريخ.

(السيرة الذاتية) ليست كتابًا تاريخيًا، ولا نشرة إنجازات، لكنها كثيرًا ما تُعامَل بهذه الطريقة.

صناع العمل يخشون الاقتراب من المناطق الشائكة في حياة الشخصية، فينحازون إلى أمان التجميل، ويبتعدون عن صراحة الحياة.

فتظهر الشخصية وكأنها ملاك بلا ضعف، أو عبقري بلا لحظة سقوط.

وعندما يُمحى الضعف، تُمحى الإنسانية… وعندما تُمحى الإنسانية يفقد المشاهد تعاطفه ودهشته.

هكذا يقع العمل في فخ (الصفحة البيضاء)، و(السيرة الذاتية) لا تُكتب على بياض، بل على عتمات ونور معًا.

ثانيًا: أزمة التناول.. حين يصبح العمل منشورًا دعائيًا.

كثير من السير تُقدَّم بروح التبرير أو التخليد لا بروح الفن.

الكاتب والمخرج يدخلان المشروع وكأنهما يحملان رسالة تمجيدية، لا عملاً إبداعيًا يبحث عن دراما.

فنرى مواقف مُختلَقة لتعظيم البطل، أو حذفًا مقصودًا لكل ما يعاكس الهالة، مما يفقد العمل توازنه ويحوّله إلى خطبة أو درس وعظي.

رسمي فتح الله يكتب: لماذا تفشل قصص (السيرة الذاتية) سينمائيًا؟
وحسن يوسف في (الإمام الشعراوي) لم يكن مقلدًا بقدر ما كان ناقلاً لحضور الشيخ وهيبته
رسمي فتح الله يكتب: لماذا تفشل قصص (السيرة الذاتية) سينمائيًا؟
صابرين في (أم كلثوم) فقد قدّمت شخصية لا تُقلَّد أصلاً

الفن لا يعيش بالوعظ

والفن لا يعيش بالوعظ، بل يعيش بالصراع: صراع الشخصية مع نفسها، ومع العالم، ومع قدرها.

ثالثًا: أزمة الأداء: حين يبالغ الممثل في تقليد الملامح وينسى الروح.

هذه من أكبر الفخاخ.. كثير من الممثلين يظنون أن النجاح في (السيرة الذاتية) يعني إتقان الصوت وطريقة المشي ونبرة الكلام، بينما الحقيقة أن هذا كله مجرد غلاف.

يمكن لممثل أن يقلد الشخصية بدقة مذهلة ثم يفشل، ويمكن لآخر أن يقترب بروح الشخصية لا بملامحها فينجح.

السر في الروح: هل فهم الممثل دوافع الشخصية؟ مخاوفها؟ صمتها الداخلي؟ ذلك الشيء الخفي الذي يجعل إنسانًا ما هو هو؟

لماذا إذاً نجح (أحمد زكي، وصابرين، وحسن يوسف؟).

لأنهم لم يقدموا مجرد (تقليد).

أحمد زكي حين قدّم السادات لم يكرر الصوت فحسب، بل كرّر القلق الداخلي للرجل، ثقته بنفسه، طريقة مواجهته للعالم.. في (أيام السادات) لم نر أحمد زكي، بل رأينا السادات يجلس في الكادر.

وفي (طه حسين) لمس أحمد زكي المساحة العميقة في حياة العميد: نضاله مع الظلام الحقيقي والظلام المجازي، صلابته وحنينه، عقله وقلبه معًا.

أما صابرين في (أم كلثوم) فقد قدّمت شخصية لا تُقلَّد أصلاً.

لم تكن الملامح قريبة، ولم يكن الصوت نسخة، ومع ذلك نجح العمل لأنها حملت روح الست: الكبرياء، القوة، هشاشة الطفلة في داخل السيدة، ولحظة الانكسار قبل لحظة الصعود.

وحسن يوسف في (الإمام الشعراوي) لم يكن مقلدًا بقدر ما كان ناقلاً لحضور الشيخ وهيبته ودفء حديثه.

هؤلاء الثلاثة لم ينحنوا أمام فن (المحاكاة)، بل انحنوا أمام الروح.. فنجحوا.

رابعًا: ضغط الجمهور.. حين يريد كل فرد (نسخته الخاصة) من البطل.

السيرة الذاتية لا تُقدَّم لشخص واحد، بل لأمة كاملة، وكل فرد في الأمة لديه صورة داخلية للشخصية.

رسمي فتح الله يكتب: لماذا تفشل قصص (السيرة الذاتية) سينمائيًا؟
الأعمال العظيمة تلتقط (مفتاح الحياة) وتبني منه سردًا

يسقطون في فخ الرتابة

وحين يرى العمل الفني أنه خالف صورةً ما، تبدأ المقارنات والاعتراضات، حتى لو كان التقديم فنّيًا صادقًا.

لهذا يخاف بعض صناع الأعمال فيلجؤون إلى الشكل التقليدي لإرضاء الجميع، فيسقطون في فخ الرتابة وإعادة إنتاج ما نعرفه سلفًا.

خامسًا: ضيق الزمن أمام اتساع الحياة.

حياة كاملة تُضغط في ساعتين أو عشر حلقات.

هنا يظهر السؤال: ماذا نختار؟

متى نبدأ الحكاية؟ عند المجد أم عند البدايات؟.. عند الانكسار أم عند النهوض؟، وهذا الاختيار وحده قد يرفع العمل أو يطيح به.

فالأعمال العظيمة تلتقط (مفتاح الحياة) وتبني منه سردًا.. لا تلخص العمر كله في كتيب إنجازات.

إذًا.. لماذا ينجح عمل ويفشل آخر؟

لأن (السيرة الذاتية) ليست مجرد نقل حياة، بل ترجمتها إلى فن.

والفن يحتاج إلى ثلاثة شروط:

أولا: صراحة لا تخاف من الظلال.

ثانيا: معالجة لا تنجر إلى المجاملات.

ثالثا: ممثل لا يقلد الجسد بل يقترب من الروح.

وحين تجتمع هذه الشروط تولد أعمال نادرة.. مثل (أيام السادات، وطه حسين، وأم كلثوم، والشعراوي).. وحين تغيب يصبح العمل مجرد صورة باهتة أصلها بعيد.

في النهاية السيرة الذاتية ليست سؤالًا عن (من كان هذا الشخص؟)، بل سؤالًا عن (كيف عاش؟ وكيف صار؟ وكيف تصالح مع قدره أو تحداه؟).

وعندما نصل لهذه النقطة سنعرف لماذا تفشل معظم السير.. ولماذا ينجح القليل منها.. فنرى الحياة لا كما وقعت، بل كما اهتزّت في داخل الإنسان، وكما تركت أثرها في روحه.. وهناك فقط يبدأ الفن.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.