
بقلم الكاتب الصحفي: محمود حسونة
ليس صحيحاً أن دراما وسينما وفن زمان أفضل من فن اليوم، وليس صحيحاً أن نجوم زمان أعلى موهبةً من نجوم اليوم، وما يتردد على الألسنة من حين لآخر عن فن ونجوم (الزمن الجميل) ليس سوى شكل من أشكال التعصب الذي تمارسه الأجيال التي عاشت أو لامست ذاك الزمن.
نشاهد حالياً أعمالاً متميزة جداً كما نشاهد أعمالاً رديئة، والأمر نفسه ينطبق على الماضي، وإن كانت الحرفية في الجوانب الفنية زادت بشكل ملحوظ في الحاضر رغم تراجع المحتوى وقد يكون السبب هو التعامل مع الكتابة الفنية بطريقة حرفية وليس بطريقة إبداعية كما بعض أعمالنا القديمة.
وعموماً فإن معايير الجودة في فن زمان وفن اليوم نسبية وتختلط فيها الأحكام بالأهواء والانتماء ويستحوذ الانحياز فيها على مساحة لا يستهان بها.
لا أعتقد أن التعصب الذي نتهم به غيرنا داء أصاب جيلاً محدداً أو شعباً معيناً أو أنه فيروس انتشر في زمن بعينه، فالتعصب ليس صنيعة زماننا ولكنه صفة غير حميدة موجودة في البشر أينما كانوا وأياً كانت جنسيتهم أو دينهم أو زمانهم.
فالإنسان في الأغلب يكون متعصباً لذاته، ثم لعائلته، ثم لقبيلته، ثم لبلدته أو حيه، ثم لمحافظته ثم دولته، وبعيداً عن حدود الانتماء العائلي والوطني يكون متعصباً لدينه وأيضاً للونه، كما يتعصب لتخصصه ثم وظيفته ثم الشركة أو المؤسسة التي يعمل فيها، والنتيجة أننا ندور في شبكة من التعصب، كلما خرجنا من دائرة تحولنا إلى كائنات تدور في أخرى، ثم ثالثة، وهكذا بلا نهاية.
لا يمكن أن نسقط الزمن من دوائر التعصب، فكل منا يتعصب لزمنه ويراه الأجمل والأفضل وأن البشر فيه هم الأكثر قيماً والتزاماً وخلقاً وإبداعاً، وذلك رغم أن أبناء الجيل الواحد عندما يجتمعون يكيلون لزمانهم ما فاضت به قواميس الانتقاد من عبارات الذم.




نجوم ذاك الزمان
متجاهلين قول الإمام الشافعي (نعيب زماننا والعيب فينا وما لزماننا عيب سوانا)، أما اللقاءات الجامعة لأجيال مختلفة فلا تخلو من تعصب وتمييز وحماس غير مبرر من كل شخص للجيل الذي ينتمي إليه.
(الزمن الجميل): جملة لا يمل بعضنا من ترديدها ودائماً ما تكون تعبيراً عن تمجيد في زمن فات وولى، ويصاحبها بشكل مباشر أو غير مباشر قدح وذم في الزمن الحاضر، ومن يرددونها كبار سن عايشوا الماضي وغالباً لم يكونوا راضين عنه، ولكنه بعد أن ذهب يحنون إليه، وبعضهم لم ينتقل مع الزمن إلى الحاضر وظل هناك في الماضي منفصلاً ومهمشاً ذاته عن كل تطور تعيشه الأجيال الحالية.
التعصب للمكان والزمان والعرق غالباً ما يكون تعبيراً عن انتماء وهوية، ولكن الإفراط فيه يتحول إلى تطرف، ولا يمكن أن يحتكر الجمال زمن ويترك القبح لأزمان أخرى، ففي كل زمن جمال وقبح، ولعلنا نتذكر جمال الماضي لأنه الأبقى أما القبح فلا نريد أن نتذكره.
المقارنة بين الأزمان تبدو في الفن جلية وواضحة، فكبار السن يعتبرون أن الغناء توقف عند عبدالحليم حافظ، يستمعون إلى أم كلثوم وعبدالوهاب وفريد ومحمد فوزي وأسمهان وغيرهم من نجوم ذاك الزمان، يرفضون الاستماع لنجوم الأجيال التالية رغم أنهم أسقطوا من أجندتهم منيرة المهدية وعبدالغني السيد وباقي نجوم (الزمن الجميل) السابق عليهم.
الأجيال المتوسطة لا تعترف بهؤلاء الرواد وتسخر من طول مدة أغاني أم كلثوم وكثرة ترديدها للكلمات والجمل، ويعتبرون أن الغناء ما قبل محمد منير وعمرو دياب وغيرهما كان تضييعاً للوقت، الأجيال الشابة لا يرفضون منير وعمرو ولكنهم لا يهرولون إليهم ويفضلون تامر حسني وأمير عيد وتولايت وإليسا وأحمد سعد.
الأمر نفسه ينطبق على نجوم التمثيل، ولا أعتقد أن الشباب اليوم يلتفتون لأفلام (الزمن الجميل)، مثل عبقري الكوميديا نجيب الريحاني ولا لأفلام يوسف بك وهبي وأنور وجدي وليلى مراد، ولا يشغلهم مشاهدة فيلم لأحمد مظهر أو كمال الشناوي أو شكري سرحان أو ماجدة الصباحي أو ليلى فوزي، بل لو سألتهم فستكتشف أنهم لا يعرفون أسماءهم ولا أشكالهم، وقس على ذلك الأجيال التالية للمذكورين سابقاً.
نعم لدينا نجوم كبار القامة والقيمة، عاش فنهم عقوداً وعقوداً بعد رحيلهم، ولكن ينبغي أن نعلم أننا مثلما نسينا نجوم البدايات فسوف ينسى الناس اللاحقين مهما طال الزمن، ومن الطبيعي أن يحل نجوم محل نجوم، مثلما تحل أجيال محل أجيال.


الحب والخيانة والثأر
نجومية الفنان تعيش بعد رحيله وتستمر طالما كان فنه صادقاً، ولذا فإن لكل نجم عمر فني يختلف عن عمره الحقيقي، أم كلثوم عاشت وستعيش ولكن نجوميتها ليست أبدية، ستخفت تدريجياً إلى أن تتلاشى ولكن ستبقى خالدة بين عظماء التاريخ، وأيضاً عبدالوهاب وسيد درويش وغيرهم من نجوم التمثيل والغناء.
ولكن من الطبيعي أن يتغير نمط الغناء وأن تتطور الصناعة الفنية، وعندما نستحضر سينما ودراما (الزمن الجميل) نجد معظمها يدور في فلك الحب والخيانة والثأر، أما سينما ودراما اليوم فقد قفزت وأصبحت تناقش أمراض المجتمع.
ومن نماذج ذلك، لام شمسية، ظلم المصطبة، ولاد الشمس، منتهي الصلاحية، الحشاشين، ليه لا، الاختيار، حالة خاصة، وهي مجرد نماذج لأعمال ناقشت قضايا لم تتطرق دراما الزمن الذي نعتبره جميلاً لما يماثلها.
لكل زمان نجومه وفنه وإبداعاته وملابسه وأدواته المعيشية، ولو أننا احترمنا أن الحياة لا تعرف الثبات وأن التغيير دائم، لقلت الفجوة بين الأجيال، نحن مجبرون على احترام أدوات هذا الزمن، وأولادنا مجبرون على تقدير ما أفرزه زماننا.
ورغم تسليمنا بأن نجوم الماضي سيتلاشون يوماً ما فإننا أيضاً على يقين أنهم لن يتكرروا وأن عمر نجوميتهم لم يحوذ عليه نجوم الزمن الحالي الذي أصبح استهلاكياً ساعياً إلى سرعة التجدد بما يتناسب وإيقاع الحياة التي فرضت علينا اللهاث كل الوقت.
(الزمن الجميل).. له جماله وله قبحه، والحاضر كذلك، وقد يكون السبب وراء إحساسنا بزيادة مساحات القبح حولنا زيادة عددنا والتطورات التقنية التي فتحت العالم على بعضه لتقتحمنا قيم كانت أبوابنا مغلقة في وجهها في الماضي، ولكن اليوم لم يعد يستطيع أحد إغلاق الأبواب وليس أمامنا سوى التسليم بالقيادة لأولادنا مع إقناع أنفسنا أنهم هم وأجيالهم، الذين يحددون ملامح زمنهم بما فيه من جمال وقبح.