* الجمهور كان قاسياً مع (منى) واستدعى نجاح صابرين!
* الفن الحقيقي دائمًا يحتاج إلى تقدير لمجهود كل من ساهم فيه، وصبر للفهم !

بقلم الدكتور: إبراهيم أبوذكري*
في مناسبة فيلم (الست) لـ (منى زكي).. كانت أم كلثوم في الوعي العربي أكثر من مجرد صوت استثنائي؛ كانت ركناً أساسياً من مرحلة كاملة عاش فيها الإنسان العربي في رحاب مشروع قومي واسع، تحت ظلال صوت العرب وشعارها الشهير: (أمجاد يا عرب أمجاد).
مرحلة كان فيها الوجدان العربي واحداً، والقضية واحدة، والحلم واحداً، رغم اختلاف أنظمة الحكم وتباين أشكال السلطة بين ملكيات تتشبث بالتقاليد وجمهوريات تندفع بقوة جارفة.
غنّت أم كلثوم في زمن العمالقة.. زمن كان فيه السياسي عملاقاً، والمفكر عملاقاً، والجمهور نفسه بحسّه وثقافته عملاقاً. زمن يُستهلك فيه الفن بوعي، ويُستقبل بوقار، ويُحب من القلب.
وفي أحد تلك الأمسيات، كان الوقت قد تجاوز الغروب بقليل، ومع ذلك بدت شوارع بيروت وكأنها تعيش ساعتها الأخيرة من الليل. حركة غريبة تسري في المكان، عابرة وسريعة، وكأن المدينة تُسابق الزمن لتختبئ خلف أبواب المنازل.
كنت أسير في أحد شوارع بيروت متوجهاً نحو فندقي القابع في شارع الحمرا، أبحث عن سيارة أجرة تعيدني قبل أن يبتلع الصمت ما تبقى من ضوء.
كانت الشوارع تكاد تخلو من المارة؛ وجوه عابرة، خطوات مضطربة، كلٌّ مستعجل إلى داره، حتى إنني شعرت أنني الوحيد الذي لا يسمع نداء العجلة. كنت أحاول أن أوقف أي سيارة تمر، لكنها كانت تلمحني لوهلة ثم تتابع طريقها دون أن تلتفت، كأنني ظلٌّ يتلاشى على الرصيف.

سهرة أم كلثوم
لم أكن أعلم حينها أن تلك اللحظات ستكون بداية لواقعة لن أنساها ما حييت.. بعد أن ضاق صدري من طول الانتظار رفعت صوتي باللهجة المصرية قائلاً: (يا عالم! أنا ابن مصر… عاوز أروح الفندق!).
لم أكَد أنهي الجملة حتى توقفت سيارة أجرة بجانبي. انخفض الزجاج، ومال السائق نحوي بابتسامة ودودة، وقال: (تفضل يا خيي… لو عرفت إنك مصري ما كنت تركتك دقيقة).
ركبت، فأكمل معتذراً عن باقي السائقين: (سامحنا يا ابن مصر… كلنا مستعجلين اليوم، بدّنا نلحق نجهّز لسهرة أم كلثوم).
استغربت، فسألته بفضول: (وإيه التجهيزات يعني؟).
ضحك ضحكة خفيفة وقال: (اليوم المدام والأولاد بيحضّروا كل شي بالبيت… كل شي تمام، إلا زجاجة العرق.. هيدي عليّ أنا.. نازل هلّق بس لأشتري العرق والمزّة.. هيدا نهار مقدّس عنا.. مرة بالشهر بتتجمّع العيلة والأصحاب حوالين الراديو، نسمع الست، ناكل ونشرب وننبسط. هيدي السهرة ما إلها متل).
ثم نظر إليّ عبر المرآة وقال بصدقٍ يعكس طيبة أهل بيروت:
(بس كرمال عيون مصر.. الله يستر.. بوصلّك وبجرب لِحَق عالدكّان قبل ما يسكر، لازم جيب زجاجة العرق للسهرة).
كانت نبرة صوته مزيجاً من الودّ والاعتزاز.. لحظة إنسانية صغيرة، لكنها كانت كفيلة بأن تجعل ليل بيروت أقل وحشة، وأكثر دفئاً.
أوصلني السائق إلى باب الفندق، وتمنّى لي إقامة طيبة، ثم أصرّ – بإصرارٍ لا يُقاوَم – على ألا يأخذ مني أجرة التاكسي، وقال مبتسماً:
(هيدي كرامال للست أم كلثوم.. ما مناخد من المصريين بهالنهار مصاري).
مرّت ثلاثة أيام قبل أن تجمعنا الصدفة من جديد.. ركبت معه مرة أخرى، وما إن تبادلنا التحية حتى تعرّف عليّ، وانفرج وجهه كأنه يرى صديقاً قديماً.. لم أفوّت الفرصة فسألته:
(طيب يا حاج.. خبرني، شو صار يوم سهرة أم كلثوم؟ لحقت الدكان؟ اشتريت العرق؟).
تنهد بعمق، كأنه يستعيد أحداث فيلم طويل، ثم قال بحسرة مضحكة: (لا والله يا أستاذ.. ما لحقت شي).
فقلت له متعاطفاً: (طب وعملت إيه حضرتك؟ اليوم دا بالنسبة لكم كبير!).
ابتسم ابتسامة واسعة وقال وهو يحرّك يده كمن يكشف سرّاً: (شو بدي أعمل؟ جبت قنينة عرق قديمة وفارغة.. عبيتها ميّ، عصرت عليها ليمون، ورجّيتها منيح.. وحطّيتها محل الزجاجة الأصلية).

صوت أم كلثوم
انفجر ضاحكاً من قلبه، ضحكة عفوية عريضة تُشعر من يسمعها بفرحٍ غريب: (والله يا أستاذ… سكرت من الليمون كأنه أفخم عرق بالدنيا!.. كلها من نشوة صوت الست.. صوتها بيعمل سحر).
كان يقولها بنبرة صادقة تجعلك تصدّق أن صوت أم كلثوم وحده قادر أن يصنع طقوس الفرح ولو بزجاجة ماء وليمون.
تلك هي أم كلثوم.. الاسم الذي تحوّل، مع الزمن، إلى حالة أشبه بالأمراض المستوطنة في الصدور؛ حالة لا شفاء منها، لا عند الجيل القديم ولا حتى عند أبناء الجيل الجديد.. انظروا إلى مسابقات الغناء للشباب والأطفال في العالم العربي.. ستجدون أن ميزان الجودة لديهم، مرجعيتهم العليا، هو أغاني الست.
وهذه – في جوهرها – مشكلة كل من يغامر بالاقتراب من هذا الكيان الفني الهائل؛ فمهما ارتفع إبداعه، ومهما بلغ جهده، يبقى المقياس واحداً.. الست.
كيان صنع معياراً لا يُجاريه أحد، وألقى بظلّه على كل من يأتي بعده، حتى صار صوتها هو المرجع، وهو المدرسة، وهو الامتحان الذي لا ينتهي.
ونصل هنا إلى رحلة تقمّص أم كلثوم.. تلك المغامرة الفنية الشائكة التي كثيراً ما تحوّلت إلى ورطة حقيقية لمن يقترب منها.. فمحاولة تمثيل الست أو استحضار حضورها على الشاشة كم جانب (منى زكي) ليست مجرد أداء لدور، بل دخول إلى منطقة مقدّسة شديدة الحساسية، محفوفة بالانتقادات والتوقعات والرهبة.
لقد كانت هذه المهمة امتحاناً عسيراً على كبار الممثلات؛ فدفعت النجمة (فردوس عبد الحميد) ثمن جرأتها عندما ارتدت شخصية أم كلثوم، وتكرّر الأمر مع الفنانة صابرين حين قدّمت السيرة الأشهر، ثم الآن مع (منى زكي) التي خاضت التجربة في إطار درامي آخر.
كل من حاولت اقتحام عالم أم كلثوم واجهت نصيبها من النقد – أحيانًا قاسٍ – شدته اختلف باختلاف النجمة، تبعًا لمدى تقبّل الجمهور لها، وقدرتها على الاقتراب من هيبة الست دون أن تبدو متكلّفة أو مدّعية.
فأم كلثوم ليست مجرد فنانة يمكن تقليدها، بل هي رمز متكامل يجمع بين الصوت والحضور والذاكرة والوجدان العربي الممتد. وأي ممثلة تجرؤ على ارتداء عباءتها تخوض اختبارًا ليس فنيًا فقط، بل إنسانيًا ونفسيًا، اختبار المكانة التي كرّستها الست في وعي الناس، والتي يكاد يكون من المستحيل منافستها فيها.

أم كلثوم مع صابرين
وهنا لا أقصد وضع عراقيل في مسيرة أي شخص يسعى لتوثيق أو إبراز العمالقة، وخاصة الست أم كلثوم، فالأمر دائمًا يبدأ بالبدايات، وأول الحلقات غالبًا ما تواجه النقد – كما حدث مع صابرين قبل أن تجني نجاحًا ساحقًا.
وفي ضوء هذا الإرث الضخم، نفهم سبب نجاح مسلسل أم كلثوم مع صابرين؛ فحضورها كان يملأ الشاشة، وملامحها المستديرة وصوتها القريب من الحس الغنائي، ولغة جسدها المتناغمة مع هيبة أم كلثوم، كلها عوامل قربتها من صورة الجمهور عن (الست).
كما أنها في الأصل مطربة، تمتلك الموسيقى في روحها قبل صوتها، ما منح أداءها صدقًا لا يُصنع بالمكياج أو الإخراج.
لكن هناك لمسة سحرية كثيرون لم يلتفتوا إليها، وهى التي سرقت قلب المشاهد بلا شعور، وهى عمار الشريعي، الذي حملت موسيقاه عبء المسلسل كله.. لقد سدت ألحانه كل فراغ بصري، وربطت التفاصيل الدقيقة، وانسابت خلسة إلى قلب المشاهد، مانحةً إياه التجربة الكلثومية الكاملة، حتى حين تغيب الصورة أو تعثرت محاولات التشابه. موسيقاه أعادت خلق المناخ الروحي لعصر كامل عاش في ظل (الست).
لهذا كله نجح المسلسل.. ولهذا أيضاً يبقى الاقتراب من شخصية أم كلثوم مغامرة محفوفة بالمقارنات والانتقادات، لأنك لا تُجسّد مطربة فقط.. بل تُجسّد رمزاً يتنفس في ذاكرة أمة بأكملها.
أما (منى زكي)، فقد وجدت نفسها في منطقة حساسة للغاية؛ فبجسدها النحيف وبُعد ملامحها عن البنية الكلثومية، كان من الصعب على الجمهور أن يتقبّل الفكرة بصرياً..
وجاءت الضربة الأقسى حين ظهرت إحدى الصور وهي تمسك كأساً بيدها – ولو كان كأس ماء – فانفجر الجدل، لأن هذا التفصيل يمس منطقة شبه مقدسة في المخيال العربي، إذ تُعد أم كلثوم رمزاً للوقار والهيبة، وصورتها محفورة في وجدان الأمة من المحيط إلى الخليج.
ظهور (منى زكي) بهذه الصورة كان، في نظر الجمهور، كمن يُدخل يده في عش الدبابير.. لقد أخطأ الإنتاج حين قدّم تلك الصور قبل عرض الفيلم؛ لأنها زرعت الانطباع الأول، بل الانطباع الحاسم، وجعلت الكثيرين يُصدرون حكمهم مسبقاً، لا على الفيلم، بل على المقارنة.. تلك المقارنة المستحيلة التي لا ترحم أحداً حين يتعلق الأمر بالست.


تمنيات بالنجاح لمنى زكي
أتمنى من كل قلبي التوفيق والنجاح للفنانة (منى زكي) ولكامل فريق الإنتاج على فيلم (الست)، على الرغم من كل ما دار من نقاشات ونقد قبل عرضه، أرجو أن يجد الفيلم قيمته الحقيقية ويلقى القبول لدى الجمهور، وأن يُقدّر المشاهد حجم الجهد الكبير والسخاء الذي بذله كل من المؤلف أحمد مراد، والمخرج مروان حامد، والمنتج أحمد بدوي وتامر مرسي في إخراج هذا العمل المميز.
الفيلم يضم باقة رائعة من النجوم الذين أضفوا على العمل قوة وتأثيرًا: (منى زكي)، بالإضافة إلى (محمد فراج، أحمد خالد صالح، تامر نبيل، وسيد رجب)، قضلا عن نجوم ضيوف الشرف الذين أضفوا لمسات ساحرة على المشهد، أبرزهم: (أحمد حلمي، عمرو سعد، كريم عبد العزيز، نيللي كريم، وأمينة خليل).
وآخرون مثل (آسر ياسين، على صبحى، طه دسوقي، أحمد أمين، صدقي صخر، أمير المصري، وأحمد رضوان).. كل واحد منهم أسهم بدوره في رسم صورة متكاملة أضفت عمقًا وجمالًا على الفيلم.
ولا يمكن إغفال الجهد الكبير لفريق الإنتاج، سواء في القاهرة أو في مواقع التصوير بالسعودية، حيث تكاتف الجميع لضمان إخراج العمل بأعلى مستويات الجودة، من الديكور والموسيقى والمونتاج إلى التفاصيل الصغيرة التي صنعت تجربة سينمائية متكاملة.
إنها تجربة فنية رائعة تستحق الصبر والوقت، والفن الحقيقي دائمًا يحتاج إلى تقدير لمجهود كل من ساهم فيه، ومع موهبة (منى زكي) والاجتهاد الكبير لكل فريق العمل، هناك يقين بأن الفيلم سيصل إلى قلب المشاهد ويُسجل مكانه بين الأعمال المتميزة في التاريخ الفني العربي.
* رئيس اتحاد المنتجين العرب