رئيس مجلس الادارة : محمد حبوشة
رئيس التحرير : أحمد السماحي

رضا العربي يكتب: (عادل إمام)… حين يتحوّل الضحك إلى طريقة لفهم الوجود

رضا العربي يكتب: (عادل إمام)… حين يتحوّل الضحك إلى طريقة لفهم الوجود
في تاريخ الضحك العربي، يقف (عادل إمام) كجبلٍ لا تُنحت ملامحه بسهولة
رضا العربي يكتب: (عادل إمام)… حين يتحوّل الضحك إلى طريقة لفهم الوجود
رضا العربي

بقلم الناقد الفني: رضا العربي

هناك وجوهٌ لا تُرى بالعين فقط، بل تُسجّل في ذاكرة شعبٍ كامل كأنها صفحات من كتاب عمرٍ جمع بين البساطة والعُمق.. من بين تلك الوجوه، يقف (عادل إمام)، ليس لانه مجرد ممثل، بل كحالة إنسانية وفلسفية نادرة، تجسّد قدرة الفن على حماية الروح من قسوة العالم.

في تاريخ الضحك العربي، يقف (عادل إمام) كجبلٍ لا تُنحت ملامحه بسهولة، وكصوتٍ استطاع أن يرفع همس الناس إلى ضحكٍ يواجه القهر، وأن يحوّل دموعهم إلى حكمةٍ متخفية تحت ابتسامة لانه ببساطة  ليس مجرّد ممثل فحسب ولا حتى (زعيم) كما اختصّه الجمهور بلقبٍ لم يمنحه أحد رسميًّا.

بل حالة إنسانية كاملة، كائنٌ مسرحيّ يتجاوز الدور إلى الروح، ويتجاوز النكتة إلى الفكرة، ويتجاوز الشاشة إلى الذاكرة الجمعية لثلاثة أجيال.

هناك فنانون يُولدون في زمنهم، وهناك فنانون يُولد زمنٌ كاملٌ فيهم.. و(عادل إمام) من النوع الثاني؛ رجلٌ بدا كأنه صفحة كبيرة تتّسع لضحكات الناس ودموعهم، وكأن حياته كانت مرآة واسعة عكست ملامح مصر، بكل فوضاها وبهجتها، بكل قوتها وضعفها، وكل تفاصيلها التي لا تُحكى إلا بسخرية المحبّين.

رضا العربي يكتب: (عادل إمام)… حين يتحوّل الضحك إلى طريقة لفهم الوجود
(عادل إمام) يملك موهبة نادرة: أن يكون قريبًا من قلب المشاهد مهما تغيّرت الأجيال

الزعيم الذي يعضّ على الجرح

ولد عادل إمام من رحم بيئة مصرية تعرف الفقر كجارٍ قديم، والقلق كصديقٍ لا يغادر.. ومن تلك الضفة الأولى لحياته، خرج بشيءٍ لا يشبه الآخرين: قدرة على تحويل الوجع إلى مشهد حيّ، إلى ضحكة تصدم قبل أن ترفّه، وتوقظ قبل أن تسلّي.

لم يكن يقدّم الكوميديا كخفةٍ عابرة، بل كفنّ يقف على حافة السكين.. ضحكته ليست خالية، بل ممتلئة بوعيٍ مُرّ، كأنها تقول: “أعرف تعبكم… لكننا سنقاوم بالضحك.”

في كثير من ملامحه، تجد وجوه البسطاء: (الساعي، الطالب الفقير، ابن الحارة، المواطن الذي يحارب ليومٍ أفضل). وفي كثير من أدواره، كان يمثّل الناس أكثر مما يمثّل نفسه.

(عادل إمام) يملك موهبة نادرة: أن يكون قريبًا من قلب المشاهد مهما تغيّرت الأجيال.. كأن الضمير الجمعي وجد فيه مرآة، يرى فيها المصري والعربي تشابه مآزقه وأحلامه.

كان يمدّ يده إلى الواقع دون تزييف.. حتى عندما يسخر، كان يُشبه من يسخر منهم: نفس الطبقة، نفس الحلم، نفس الوجع.

رضا العربي يكتب: (عادل إمام)… حين يتحوّل الضحك إلى طريقة لفهم الوجود
قليلون هم الفنانون الذين وقفوا في منتصف الطريق بين السلطة والجمهور ولم يسقطوا.. عادل إمام فعلها.

الفنان الذي واجه السلطة

قليلون هم الفنانون الذين وقفوا في منتصف الطريق بين السلطة والجمهور ولم يسقطوا.. عادل إمام فعلها.

سخر من التطرف في (الإرهاب والكباب) فضح عبث السلطة في (الزعيم).. عرّى فساد الإدارات في (الواد سيد الشغال)، وترك للمشاهد يقظةً لا تُقرأ في السيناريو، بل تُقرأ في الوعي.

كان يقترب من المحظور بخفة ممثل محترف يعرف أين يقف الضوء وأين يقف الخطر.. لكنه كان يقف على أي حال.

ضحكه لم يكن عبثياً.. حتى أكثر مشاهده كوميدية كانت تُخفي وراءها فراغ إنسان، ووجع وطن، وأسئلة وجودية نتهرب منها. كان يعرف أن الضحك الحقيقي هو الذي يُشبه وجعًا خفيفًا يمرّ على القلب فيُطمئنه أنه ما زال حيًّا.

في (الإرهاب والكباب) لم يكن (عادل إمام) يضحكنا فقط على الفوضى التي قد نصنعها بأيدينا، بل كان يصرخ معنا من عمق الروح: لماذا نعيش كل هذا العبث؟

وفي (المنسي) كان المنسي هو نحن.. نحن الذين نسير في الحياة بهدوء، بينما نحمل فوق ظهورنا هموم المدن وازدحام الأيام وقسوة الليالي…وموت الاحلام

رضا العربي يكتب: (عادل إمام)… حين يتحوّل الضحك إلى طريقة لفهم الوجود
ظلّ يعمل بإصرار العشّاق، كأن الفن ليس مهنة بل عهد. تقدّم في العمر

مرآة المجتمع.. وصوت المقموعين

من خلال أفلامه، اقترب من كل الطبقات: ابن الحارة، الموظف الغلبان، المثقف الذي يبحث عن نفسه، المتمرد على القهر، والعاشق الذي يحارب من أجل قلبه. كان يلتقط نبض الناس كمن يلتقط نبض طفلٍ ينام على صدره.

في (كراكون في الشارع) كشف هشاشة البيوت التي قد تسقط فوق أهلها قبل أن يبنوا حلمًا واحدًا.

وفي (طيور الظلام) وضع السياسة على طاولة التشريح، وعرّى صراعاتها، وتركنا نقرأ عورات الحقيقة دون أن يرفع صوته.

الزمن الذي يلتهم الممثلين واحدًا تلو الآخر، وقف أمام (عادل إمام) بحيادٍ مذهل.. لم يلغِه، لم يضعفه، بل أعاد تشكيل حضوره.. ظلّ يعمل بإصرار العشّاق، كأن الفن ليس مهنة بل عهد. تقدّم في العمر، لكن ملامحه، بحكم الاعتياد، بقيت جزءًا من ذاكرة الناس:

– ملامح أبٍ صارم لكنه يحبك.

– رجلٍ حقيقيّ لا يعرف أقنعة الزيف.

– صديقٍ يمكن الاعتماد على ضحكته في الأوقات الصعبة.

رضا العربي يكتب: (عادل إمام)… حين يتحوّل الضحك إلى طريقة لفهم الوجود
ضحكاته نصلٌ مُغلفٌ بالمرح.. تُضحكك أولًا، ثم حين تهدأ اللحظة، يتسلل الشكّ إلى داخلك

ليس نجمًا، بل زمنًا كاملًا

وُلِد (عادل إمام) في زمنٍ كان الوطن يبحث فيه عن صوته الجديد بعد تحوّلات سياسية واجتماعية عميقة. وربما لهذا السبب، حين ظهر على المسرح والسينما، بدا كأنه جاء ليكون “صوت الضحك” في زمنٍ يحتاج إلى خفّة الروح بقدر حاجته إلى الحقيقة.. الفن عنده لم يكن أبدًا هروبًا، بل وسيلة للاقتراب أكثر من وجع الناس.

قد يظن البعض أن الضحك خفيف، عابر، لا يمكنه حمل الأسئلة الكبيرة، لكن تجربة (عادل إمام) تثبت العكس تمامًا.. ففي كل مشهد يضحكك، هناك سؤال خفي: لماذا أصبح الإنسان مسجونًا داخل تناقضاته؟ لماذا نندفع نحو السلطة، ونخاف منها في الوقت ذاته؟ لماذا نحلم بالعدل ونصمت حين يسلبونه منّا؟

ضحكاته نصلٌ مُغلفٌ بالمرح.. تُضحكك أولًا، ثم حين تهدأ اللحظة، يتسلل الشكّ إلى داخلك: (هل كنت أضحك على نفسي؟ على مجتمعٍ يشبهني؟ أم على قدرٍ يلاحقنا جميعًا؟).

رضا العربي يكتب: (عادل إمام)… حين يتحوّل الضحك إلى طريقة لفهم الوجود
هو الممثل الذي كشف هشاشة السلطة ببساطة نكتة، وفضح فساد المؤسسات بابتسامة

البطل الشعبي.. ومرآة الناس

في أفلامه، لم يكن (عادل إمام) بطلًا خارقًا، بل إنسانًا يشبهنا؛ يخاف، يحلم، يتوقف في منتصف الطريق، يتعرقل، ينهض. وفي هذا التشابه بالتحديد، تكمن الفلسفة الخفية لفنه: البطولة ليست أن تنتصر دائمًا، بل أن تظل قادرًا على الضحك رغم معرفتك بأن العالم ليس عادلًا.

هو الممثل الذي كشف هشاشة السلطة ببساطة نكتة، وفضح فساد المؤسسات بابتسامة، وجعل من المقهورين أبطالًا بلا ضجيج. ربما لهذا أحبه الناس: لأنه لم يدّعِ المثالية، بل كشف الإنسانية بكل تناقضاتها.

(عادل إمام) ليس تاريخًا فنيًا فقط، بل تاريخ اجتماعي.. فكل مرحلة في مسيرته تُشبه مرآة لعصرٍ كامل:

في السبعينيات كان صوت الشباب الباحث عن معنى.

في الثمانينيات صار لسان الطبقة المتوسطة التي تخاف أن تفقد مكانها.

في التسعينيات حارب التطرف والظلام بالفكاهة، حتى صار الضحك نفسه مقاومة.

وفي الألفية الجديدة أصبح شاهدًا على تحولات الإنسان العربي وسط عولمةٍ تلتهم الهوية وتلتهم كل شيء.

كل هذا جعله رمزًا، لا لأنه أراد ذلك، بل لأن الفن حين يصدُق، يصنع رموزه دون أن يستأذن أصحابها.

رضا العربي يكتب: (عادل إمام)… حين يتحوّل الضحك إلى طريقة لفهم الوجود
(عادل إمام) هو الفنان الذي إن غاب، تظل ملامحه في روح البلد

علّمنا أن نبتسم كي نعيش

قد يرحل الزمن، وقد تهدأ الأضواء، لكن بعض الوجوه تبقى لأنها قدّمت للناس شيئًا لا يُنسى: لحظة صدق. وعادل إمام منح ملايين البشر لحظة صدق واحدة متكررة: ضحكة تُعيد الإنسان إلى نفسه، إلى بساطته، إلى يقينه بأن الحياة رغم كل شيء تستحق أن تُعاش.

إن (عادل إمام) ليس  مجرد فنان.. إنه فكرة: أن الضحك قدرة فلسفية على مقاومة العبث، وأن الفن الحقيقي لا يقف على المسرح فقط، بل يعيش داخل الناس، يرافقهم في وحدتهم، ويمنحهم المعنى حين يضيع منهم الطريق.

لم يكن (عادل إمام) زعيمًا لأنه لُقِّب بذلك، بل لأنه كان يحمل في داخله شيئًا يجعل الناس تتبعه دون أن يطلب.

شيئًا يشبه الصدق، ويشبه الشجاعة، ويشبه الإنسان المصري كما هو:

ساخرًا، حنونًا، متعبًا، قويًا، حكيمًا، بسيطًا، وعميقًا في وقت واحد.

(عادل إمام) هو الفنان الذي إن غاب، تظل ملامحه في روح البلد، وتظل ضحكته في قلوب الناس.

وتظل أعماله كأنها شرفات مفتوحة على الزمن، نقف عندها لنرى أنفسنا من جديد.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.