
بقلم المخرج المسرحي الكبير: عصام السيد
في أثناء قراءتى لكتاب (نظام التفاهة) لألآن دونو تطرقت الى القراءة عن الكتاب و صاحبه، عندها اكتشفت العديد من الكتب التي ترصد و تحلل ما أصاب المجتمعات من خلل في قضية (الثقافة)، سواء سبقت كتاب دونو أو جاءت بعده.. أحد هذه الأصوات ظهر مبكرا في منتصف القرن العشرين، حين كانت أوروبا مازالت تلملم شتات حربٍ أنهكت جسدها وروحها.
كان ذلك صوت (جي ارنست ديبور – 1931 / 1994) المفكّر الفرنسي المتمرّد، ومنتج الأفلام والشاعر الذي ضاق بالنماذج الجاهزة، والفيلسوف الذي آلى على نفسه أن يفضح ما تستره أضواء المدن من ظلال .
كان دونو الشخصية المحورية والمؤسس الرئيسي لـ (الأممية الموقفية) تلك الحركة الثورية التي تشكلت عام 1957، وبقيت نشطة في أوروبا حتى سنة 1972، واهتمت بالفن و(الثقافة) في البداية و تدريجيا تغير التوجه الفني نحو النظريات الثورية والسياسية.
حيث توسعت في إعادة شرح أفكار كارل ماركس، و رفضت فكرة أن ظواهر نجاح الرأسمالية (التقدم التكنولوجي، والزيادة في الدخل والرفاهية) تستطيع التغلب على الخراب والتدهور الاجتماعي الذي تتسبب به في نفس الوقت.
لذا يُعتبر ديبور من أبرز نقاد المجتمع الرأسمالي المتقدم، و لم تقتصر أعماله على التنظير الفلسفي، بل امتدت لتشمل ممارسات فنية وسياسية تهدف إلى (بناء مواقف) حقيقية في مواجهة الاستعراض، فهو لم يكن مجرد ناقد اجتماعي، بل كان روحاً قلقة تبحث عن حياة تُعاش لا أن تُعرض، وعن وجودٍ لا يتحوّل إلى مجرد صورة تُستهلك ثم تُنسى.
من هنا وُلد كتابه الأشهر (مجتمع الاستعراض أو الفرجة) عام 1967 (La Société du Spectacle الذى يُعدّ من النصوص التأسيسية لفهم المجتمع المعاصر من منظور نقدي – اجتماعي ، أراد ديبور به أن يُعرّي عالمًا يظنّ نفسه واضحاً، مع أنه غارق في الأوهام.
ففي هذا الكتاب يعلن أن الحياة الحديثة تحت هيمنة الرأسمالية والإعلام والاستهلاك تحوّلت إلى مجتمع للاستعراض او الفرجة ، حيث تسيطر الصور والعروض على الحياة الاجتماعية وتوجهها.. وأن الإنسان، بدلاً من أن يكون فاعلاً في العالم، صار متفرجاً على حياته وهي تُعاد صياغتها أمامه في صور مُصقولة وخادعة.

تحول إلى تمثيل
إن (مجتمع الفرجة) ليس كتاباً عن الإعلام فحسب، ولا هو نقدٌ للرأسمالية وحدها، بل هو محاولة لالتقاط ذلك التحوّل العميق الذي جعل الصورة تُزيح الحقيقة، والرغبة تُصنّع في مصانع الإعلانات، والوجود الإنساني يُختزل في ما يمكن عرضه، لا ما يمكن عيشه.
إنه تحذير مبكر من عصرٍ تذوب فيه الحدود بين الواقع وتمثيله، ومن زمنٍ يزداد فيه الإنسان وحشةً كلما ازدادت الأشياء سطوعاً من حوله ، و لذا يعتبر البعض هذا الكتاب محرضا لثورة الطلاب في فرنسا عام 1968 والتي لعب فيها ديبور دورا اثناء احتلال السوربون تلك الجامعة التقليدية العريقة .
بهذه الروح المتمرّدة، وبذلك القلق النبيل، يدخل بنا ديبور إلى عالم الفرجة، لا ليدين الإنسان، بل ليوقظه من سبات الصورة، ويذكّره بأن الحياة الحقيقية تبدأ حين نكفّ عن التفرج، ونجرؤ على أن نكون ، فيقدم لنا كتابا مختلفا شكلا و مضمونا ، فلقد صاغ الكتاب في 221 فقرة او أطروحة مقسمة إلى 9 فصول.
كل فقرة منها تتحدث بتركيز عن فكرة محددة بشكل مكثف ، تحلل بدقة كيف يتغلغل منطق الاستعراض في كل جوانب الحياة: من الإعلام والسياسة إلى (الثقافة) والعلاقات الشخصية، وكيف تصبح السلعة هي المحرك الأساسي لكل شيء، فالاستعراض هو اللحظة التي تستعمر فيها السلعة الحياة الاجتماعية بأكملها .
لا يرى ديبور الفرجة كصورةٍ تمر أمام العين، بل كنظام كامل قائم على التراكم الرأسمالى يتسلل إلى تفاصيل الحياة.. فالإنسان – كما يقول – أصبح يتواصل مع ذاته ومع العالم من خلال صور مصنّعة، لا من خلال التجربة الحيّة، ويضيف: الفرجة ليست مجموعة من الصور، بل علاقة اجتماعية تتوسّطها الصور.
إنّها ليست مجرد انعكاس لواقعٍ ما، بل تشويهٌ له؛ نسخة مُعدّة مسبقًا، تخدم مصالح السوق، وتعيد تشكيل وعي الإنسان حتى يظن أن ما يراه هو ما يعيش.. فعلى سبيل المثال: لماذا يتصرف كل انسان حسب ما ينتظره الآخرون منه ؟ و الإجابة عند ديبور لأنه يسعى الى ( تمثيل او استعراض ) دور في المجتمع يطابق النموذج المتفق عليه.
فهو يعلم بوجود متفرجين، هؤلاء لن يصفقوا و لكنه يخشى صفيرهم او بمعنى آخر نقدهم و تعليقاتهم السلبية، ولا يريد أن يتهم بالغرابة، و بالتالى يمضى في التمثيل او الاستعراض و مع مرور الوقت قد يتلاشى تماما ولا يبقى منى سوى ما يريده المجتمع منه حسب نماذج أصبحت مستقرة ( الحكيم / الفاشل/ الثائر/ الناجح/ الضحية.. إلخ )
كيف وُلد هذا العالم؟، يشرح (ديبور) أنّ الفرجة لم تهبط علينا فجأة، بل هي نتيجة طبيعية لمسار طويل للرأسمالية، فالعصر الذي كان يهتم بإنتاج السلع، أصبح يهتم أكثر بإنتاج الرغبات. وما إن امتدت يد السوق إلى العلاقات الإنسانية، حتى تحولت بدورها إلى سلع تُعرض وتُباع.
تمامًا كما تُباع الإعلانات التي تحدد لنا ما الذي نحتاجه وما الذي يجب أن نكونه، وهكذا يصنع لنا الاعلام والإعلان احتياجات جديدة ويعيد تشكيل وعي الناس.

حين تصير الحقيقة بلا وزن
في هذا العالم الجديد، تصبح الصورة أكثر صدقًا – في نظر الناس – من الحقيقة نفسها.. الإنسان يعيش منفصلاً عن ذاته ( يتغرّب عن ذاته ) يستهلك صورًا لا تعكس حياته بقدر ما تفرض عليه شكلًا محددًا لكيف يعيش، وكيف يحب، وما يجب أن يرغب فيه؟
لقد أصبحت التجارب تُعاش كفرجة: حفلٌ يُصوّر، رحلةٌ تُنشر، حدثٌ سياسي يُسوّق، حتى الاحتجاج السياسي يتحول إلى حدث يلتقطه المصوّرون قبل أن يتشكل كفعل.. فالناس لم يعودوا يعيشون التجارب، بل يشاهدونها في التلفزيون ووسائل التواصل، وتغدو الحقيقة نفسها بلا قيمة إذا لم تُحوَّل إلى صورة قابلة للاستهلاك.
يكتب ديبور بحدةٍ لافتة (في مجتمع الفرجة، يتحول السياسى إلى نجم)، فالساحة السياسية تصبح مجرد عرض كبير؛ انتخابات تُسوّق كشعارات، ونقاشات تُختصر في لقطات قصيرة، وكاريزما تُباع لمن يدفع أكثر.. إنه عالمٌ يضعف فيه الفعل السياسي الحقيقي، لأن المساحة التي كانت مُخصّصة للفكر والحوار، احتلتها الصورة المشذّبة التي تُطمئن المتفرّجين.
ورغم قتامة المشهد – الذى ربما كان السبب في انتحار ديبور – إلا أنه لم يغلق الباب، فإذا كانت: الفرجة هي قلب اللاإنسانية في المجتمع الحديث.. لكنها ليست قدَرًا نهائيًا.
بل يدعونا إلى استعادة التجربة الحية: أن نعيش لا أن نشاهد، أن نفكر و نبدع لا أن نُلقّن ، أن نشارك مشاركة فعلية، وأن نعيد للإنسان قُدرته على رؤية العالم خارج عدسات السوق والإعلام و(الثقافة)، و أن نرفض تحويل الحياة الى سلعة، ففي عالم الفرجة، يصبح الزيف صدقًا !!
وبرغم تحذيرات ديبور منذ منتصف القرن الماضى، إلا أن القرن الحالي جلب لنا ما هو أسوأ، و تلك قصة أخر..