
* حين يتحوّل الفقد الفلسطيني إلى حياة ما بعد الحياة

بقلم الكاتب والناقد: محمد الروبي
منذ بداياتها، لم تكن السينما الفلسطينية يومًا مجرّد وسيلة لعرض الحكايات، بل كانت جهدًا دائمًا لاستعادة الذاكرة وترميمها.. سينما تصنع من الخسارات المتراكمة لغة جديدة، وتحوّل الفقد إلى صورة قابلة للتماس، والوجع إلى لقطات تتنفس، فمن أفلام المقاومة الأولى، إلى (عائد إلى حيفا، عرس الجليل، يد إلهية، غزة مونامور)، ظلّت الكاميرا الفلسطينية تنحاز إلى الإنسان لا إلى الرمز، وإلى الهشاشة اليومية لا إلى الشعارات الكبيرة، في هذا السياق يأتي فيلم (ما بعد…) لمخرجته مها حاج.
يواصل فيلم (ما بعد…) هذا النفس الإنساني، لكن من زاوية أكثر خفوتًا وأكثر قسوة: زاوية البيت. إنه لا يتناول الحرب مباشرة، بل الظلّ الذي تُلقيه داخل الجدران؛ ذلك الشقّ الصغير الذي يظهر في العلاقات حين يرهقها الخوف والفقد والانتظار المديد.
وكأن الفيلم يهمس بأن النجاة من القصف لا تعني بالضرورة النجاة من أثره، وأن البيت الذي يبقى قائمًا قد يحمل داخله ما هو أشدّ هشاشة من الجدران.
هكذا يتجلى فيلم (ما بعد…) كتجربة فلسطينية أصيلة: لا بطولة، ولا خطابًا عاليًا، ولا معارك. بل زوجان يحاولان التنفس داخل عالم لم يعودا يعرفان كيف ينجوان منه. ويغدو زواجهما- بما فيه من صمت وأسئلة ومراوغات – مرآة واسعة لوطن يعيش منذ عقود في حداد غير معلن، يبحث عن لغة يعترف من خلالها بما فقده.

علاقة تبحث عن لغتها
منذ اللقطة الأولى، ندرك أن العلاقة بين الزوجين ليست مستقرة.. التوتر لا يأتي صاخبًا، بل خافتًا، يشبه ذلك القلق الذي يسكن البيوت التي نجت من عاصفة دون أن تصلح شروخها.. الزوج يتحرك في المكان بتردّد، كأن الكلمات نفسها ألغام عاطفية يخشاها، والزوجة تتصرف كما لو أنها تحاول الإمساك بخيط الحياة اليومية كي لا ينهار ما تبقى.
التحليل النفسي يكشف علاقة قائمة على التجنّب المتبادل؛ كل منهما يعرف أن الآخر يحمل جرحًا عميقًا، لكنهما يتواطآن على الصمت، لأن الكلام يعني المواجهة، والمواجهة قد تعني انهيار التوازن الهش.
حديثهما دوماً عن الأبناء، ولا شيء آخر.. حديث محمّل بتفاصيل يومية: ابن مريض، آخر يتخذ قرارًا دراسيًا لا يرضي الأب، ثالث بعيد، وصغيرة مدلّلة أكثر مما ينبغي. حديث تبدو فيه الحياة طبيعية، مألوفة، وكأنهم يعيشون يومًا عاديًا.
لكن المفاجأة ستكشف لاحقًا أن الأبناء غير موجودين، لا في البيت فقط، بل في الحياة. هنا تتضح البنية النفسية للعلاقة. فالأبناء – بوصفهم حضورًا متخيَّلًا -ليسوا شخصيات، بل آلية للبقاء.
إنهما يخلقان عالمًا موازيًا يخفّف وطأة الغياب الحقيقي. وهذا الفعل يشبه تمامًا ما يفعله الفلسطيني عبر تاريخه: الوطن المفقود يُستعاد في الذاكرة، والبيت المهدّم يُرمَّم في الحكاية، والغياب يُقاوَم بالكلام.

لا شيء يحدث… لأن كل شيء قد حدث
يمضي فيلم (ما بعد…) في بداياته كأن شيئًا لا يحدث.. زوجان يعيشان في بيت فلسطيني بسيط، ينساب كلامهما عن الأولاد الخمسة بانسيابية يومية لا تثير الشك: واحد يعاني الحمى، وآخر يريد دراسة تخصص لا يرضي الأب، وثالث تلقى دلعًا زائدًا من الأم. كل شيء يبدو طبيعيًا، إلى أن يدخل الزائر – الصحفي – ويبدأ الخيط الرفيع في الاهتزاز.
في أول الأمر، نظن أن وجوده مجرد حوار صحفي عابر، جزء من يوم شبيه بأيام كثيرة مرت على هذا البيت. لكن شيئًا في نبرة الزوج، في حرصه على الحديث عن أولاده، وفي إفراطه في التفاصيل، يلمّح إلى جرح غير مرئي.. تبدأ ملامح الزلزال في التشكل؛ ليس في صورة صدمة مباشرة، بل ببطء يشبه تشققات جدار قديم لا ينهار مرة واحدة، بل يتصدّع أمام أعيننا.
سيفاجئنا الصحفي الزائر بسؤال سيهوي على رأس المشاهد كمطرقة، حيث يقول: (أعرف أن مأساة فقد خمسة أبناء مرة واحدة في قصف للبيت مأساة كبرى.. ولكني كنت أريد أن أعرف، هل كنتم موجودين بالمنزل؟)، هنا ينكشف كل شيء.
ينطفئ سؤال الزائر، ويشتعل سؤال فيلم (وبعد..): إنهما لا يتحدثان عن أبناء موجودين.. إنهما يتحدثان عن أبناء كان لهم وجود.. من هذه اللحظة، نبدأ نحن – مثل الزائر – في إعادة قراءة كل جملة قالاها الزوجان، وكل نظرة تبادلاها.
هنا ستنهار كل الدفاعات، دفاعات الشخصيتين ودفاعاتنا نحن.. إنهما كانا يتحدثان طوال الوقت عن ما ليس له وجود: عن أبناء كبروا وعاش كل منهم حياته، بل وأخبرنا الزوج منذ قليل أن أحدهم اتصل اليوم ليطمئنه على ولده الذي أصابته الحمى.
وإمعانًا في الصدمة، يصل فيلم (ما بعد…) إلى مشهد العشاء الثلاثي، وهو من أجمل مشاهد السينما الفلسطينية في السنوات الأخيرة، حيث يجلس الزوج والزوجة والزائر حول الطاولة، وفي لحظة دفء زائفة، يدير الزوج رأسه نحو الصحفي ويقول بحميمية: (خالد بيسلّم عليك).
يرتبك الزائر، يهتز رأسه، ترتجف عيناه، ويخيّم صمت كثيف قبل أن يسأل: (خالد مين؟)، فيرد الزوج ببساطة صادمة: (خالد ابننا).

نجاة من صدمة لم تُدفن
هنا ينزاح ستار الحقيقة تمامًا؛ الأولاد الذين تحدّث عنهما الزوجان منذ بداية الفيلم ماتوا أطفالًا.. وكل هذا الحوار اليومي الذي بدا لنا عاديًا- بل وربما مملاً- هو في الحقيقة محاولة يائسة للنجاة.. نجاة من صدمة لم تُدفن، وخسارة لم تجد مكانًا لتُقال.
بعد رحيل الزائر، يعود الزوجان إلى المنوال نفسه؛ كأن شيئًا لم يُكشف، كأن العالم يجب أن يعود إلى (الوهم الجميل) الذي يحميهما من السقوط. لكن الفيلم يمنحنا مشهدًا ختاميًا يقف عند حدّ الوجع الخالص: البيت غارق في الظلمة، لا ضوء إلا خيط باهت من نافذة ساكنة.
ومن الخلفية يأتي صوت الزوجة وهي تصف حفيدها – ابن خالد – الذي لم يكن له وجود أصلًا.. تصفه كما لو أنها تراه أمامها: (أبيض.. شعره كيرلي.. كل أحفادنا جُمال..) وتتابع ببراءة تبكي الحجر: (هعمل لهم كنزات صوف تدفيهم من البرد..).
يا الله؟؟ ما كل هذا الوجع؟ وكيف يمكن لسينما أن تكون بهذه البساطة.. وبهذا الانكسار.. وبهذا الصدق؟

الكاميرا لا ترصد… بل تبكي
الكاميرا في (ما بعد…) ليست مجرّد راصد، بل جزء من الحالة النفسية.. تحافظ دائمًا على مسافة بين الزوجين داخل الكادر، وكأنها تجعل الفجوة العاطفية مرئية بشكل ملموس.
اللقطات الواسعة تُظهر البيت كفضاء فارغ، أكبر مما يحتاجانه، يتردد فيه صداهما أكثر مما تُسمع أصواتهما.. اللقطات القريبة لا تهتم بوضوح الملامح بقدر ما تلتقط الارتجاف الداخلي.. الحركة البطيئة تمنح الزمن ثقلًا، وكأن الصورة نفسها تخشى الاقتراب من الحقيقة.
بل إن المشاهد الأولى تصر على إظهار المساحة الهائلة التي يحيا فيها الوحيدان، تؤكدها الحركة الرتيبة الأقرب إلى الآلية.. فكل شيء هنا ينضح بالرتابة والملل، بل والسواد الذي سيظل هو اللون الوحيد الذي يرتديه كل منهما.
وهو ما حتم أن يأتي أداء الممثلين (محمد بكري في دور الزوج، وعرين عمري في دور الزوجة، وعامر حليحل في دور الصحفي) مبنيًا على الطبقات الداخلية، لا على التعبير المباشر.
الزوج ينتقي كلماته كما لو كان يتعامل مع مادة قابلة للكسر.. الزوجة تراقبه بوعي كامل، لكنها تُبقي أسئلتها معلّقة خوفًا من انهيار التوازن الهش، والصحفي لا يمتلك إلا رجفات عيونه وارتعاشة وجهه ليعبر بها عن صدمته.
إنهم يقدمون مشاعر تتحرك تحت السطح، تُرى قبل أن تُسمع، وهذا ما يمنح الفيلم صدقه وحدّته.
قد يبدو (ما بعد…) فيلمًا صغيرًا عن زوجين، لكنه في الحقيقة فيلم كبير عن فلسطين. إنه فيلم عن الحداد الذي يتعايش معه الناس يوميًا دون أن يسمّوه، عن الخسارة التي تصبح جزءًا من الروتين، وعن محاولات النجاة التي لا تخلو من الوهم الجميل الذي يساعد على العيش.
فيلم هادئ في شكله، لكنه عميق في أثره.. لا يصرخ، لكنه يترك خدشًا في النفس.. لا يقدّم إجابات، بل يضعنا داخل تلك المساحة التي لا يراها أحد: مساحة الفقد الشخصي الذي يعكس فقدًا جماعيًا أكبر.
إنه وبحق إضافة صادقة إلى السينما الفلسطينية، لا بوصفه فيلمًا عن القضية، بل عن الإنسان داخل القضية؛ عن القلب الذي يواصل الخفقان رغم كل ما فُقد.