
بقلم الكاتب السوري: عامر فؤاد عامر
تعود (أسمهان) – آمال فهد الأطرش – إلى الضوء في ذكرى ميلادها المئة وسبعة، وكأنها لم تغب يوماً.. امرأة لا تشبه أحداً، وصوتٌ لا ينتمي لزمنٍ واحد، بل لمدى مفتوحٍ بين الشرق والغرب، بين البحر الذي وُلدت فوق مياهه، والسماء التي ظلّت ترفرف فيها نبرتها الفريدة.
لم تولد أسطورة بهذا الحجم على سريرٍ أو في غرفة دافئة، بل وُلدت (أسمهان) في عرض البحر، على متن باخرة كانت تقلّ عائلتها الفارّة من الأناضول نحو بيروت، في مشهد يصلح لبداية روايةٍ كبرى، أتت فيها طفلة إلى الدنيا وسط ارتجاج الموج، وكأنّ القدر يعلن منذ اللحظة الأولى أن هذه المولودة لن تشبه أحداً.
أطلقت عليها أمّها اسم (آمال).. أمّا اسم (أسمهان) فكان لاحقًا هدية الفن لها، وهديتها للعالم.

دقائق قليلة صنعت دهشة طويلة
دخلت (أسمهان) عالم الموسيقى بموهبة كاملة لا تحتاج إلى زمن لتكتمل.. لم تتجاوز حياتها 26 عاماً، وعلى الرغم من ذلك تركت إرثاً يليق بفنّانة تعيش مئة عام وتطرق باب الخلود.
في أغانيها نلمس ثلاث خصال لا تجتمع عادة معاً لدى مطربة:
1- النقاء الأوروبي في المدرسة الغنائيّة: طبقة صوت ترحل صعوداً وهبوطاً بسلاسة، كأنّها تتدرّب في معهد كونسرفتوار عالمي، وهذا ما جعل كبار الملحنين – وعلى رأسهم فريد الأطرش ومحمد القصبجي – يعاملون صوتها كآلةٍ موسيقيّة دقيقة.
2- شرقية الروح: فعلى الرغم من حداثة صوتها، ظلّت طياته الشرقية حاضرة بقوّة، خصوصاً في أعمال مثل (ليالي البِشْر، وأين الليالي).
3- دراما الأداء: لم تكن أسمهان تغنّي وحسب بل كانت تمثّل بصوتها أيضاً. نجدها تصرخ بهدوء، وتبكي باتزان، وتفرح بنبرة لا تشبه فرح أحد، كما في أغنية “دخلت مرة في جنينية” و “كنت الأماني”.


روح عالميّة سبقت زمنها
لم تكن (أسمهان) حبيسة المنطقة العربيّة بل كانت تمتلك نَفَساً عالميّاً نادراً في زمنها، وجاء نطقها للأجنبيّة إضافة مثالية، لا سيما وأنها تتحدّث بعمر مبكر الفرنسيّة والإنكليزيّة، وهذا خدم إيقاع غنائها الذي يميل إلى المدارس الغربيّة؛ كما أن حضورها على المسرح والسينما.
(وخاصة في فيلم غرام وانتقام) كان فيه لمسة cosmopolitan واضحة؛ حتّى صورها الفوتوغرافيّة كانت مختلفة، ونجد فيها أناقة باريسيّة بنكهة شرقيّة آسرة.
ويمكن القول بكلّ ثقة أن (أسمهان) كانت أوّل فنّانة عربيّة تُقدّم فنّاً عبر الحدود قبل عقود من ظهور مفهوم العولمة الفنّيّة.
رحلت (أسمهان) في واحدة من أغرب النهايات في تاريخ الفنّ العربي، لكن الغياب لم يطوِها أو يلغيها بل عزّز أسطورتها. كلّما مرّ الزمن، ازداد صوتها لمعاناً، وكلّما ابتعدنا عن أربعينيّات القرن الماضي، اكتشف المستمعون الشباب أن هذا الصوت – الذي سُجّل قبل 80 عاماً – ما زال جديداً، قويّاً، ومختلفاً.

لماذا ما زلنا نعود إليها اليوم؟
لأنّ (أسمهان) ليست مجرّد صوت، بل حالة فنّيّة، امرأة حملت البحر في ولادتها، والجبل في جذورها، والقاهرة في نجوميّتها، والشرق كلّه في حنجرتها، ثمّ حملت شيئاً من العالم في طموحها.
أسمهان لم تُعطِ الفنّ كثيراً من السنوات، لكنّها منحته الكثير من المعنى.. وها نحن اليوم، بعد أكثر من قرن على ميلادها، نكتشف أن بعض الأصوات لا تشيخ، لأنها لم تأت لتكون جزءاً من زمن، بل لتصنع زمناً جديداً.