
بقلم المخرج المسرحي الكبير: عصام السيد
في كل عصر، تظهر كتب توقظ في الناس شعوراً بأنهم كانوا يرون شيئاً دون أن يتمكنوا من تسميته ، ومن بين هذه الكتب في زمننا المعاصر يبرز كتاب (نظام التفاهة)، أو (نظام الرداءة ) للمفكر الكندى (ألان دونو)، بوصفه مصباحا يسلّط الضوء لا على الأشياء الكبيرة، بل على تلك التفاصيل اليومية التي نمرّ بها بلا اكتراث، لكنها – بطريقة ما – تغيّر شكل حياتنا كلياً.
كتاب (نظام التفاهة)، لا يقدّم نظريات جديدة بقدر ما يقدم عدسة نرى من خلالها ما اعتدنا عليه حتى صار مألوفاً لدرجة أنَّنا لم نعد ننتبه لخطورته : بيروقراطية تُغرق الإنسان في شكليات، ثقافة تحوّلت إلى محتوى خفيف، فنّ يبحث عن (الإعجاب) لا الجمال، وسياسة تدار كما تُدار الحملات الإعلانية.
ويقول دونو في إحدى عباراته اللافتة: (يعد مطلوباً أن تكون كفؤاً، بل أن تكون قابلاً للاستبدال.”هذه الجملة تختصر ما يريد قوله من أن (نظام التفاهة) أو ا(لرداءة ) ليس نتيجة صدفة أو انحدار ثقافي، بل نظام اجتماعي – اقتصادي يشجع السطحي ويقصي العميق.
فهو يرى أن (نظام التفاهة) ليست أفراداً بل طريقة عمل انتشرت في المؤسسات الحديثة كالجامعات والمراكز البحثية التى أصبحت تدار كالشركات: تعتمد على الإجراءات اكثر من الأفكار ، و التقييمات اكثر من المعرفة ، و المهارات الشكلية اكثر من الكفاءة ، و العلاقات العامة أكثر من العمق ، حيث يُقاس النجاح بعدد (المخرجات) القابلة للتسويق لا بجودة المعرفة.
و في هذه البيئة، لا مكان للمفكر أو الفنان الحقيقي، لأنه (غير قابل للقياس)، بينما يزدهر الموظف المطيع الذي يعرف كيف يملأ النماذج، ويرضي المديرين، ويجيد (التواصل)، ويؤكد دونو أن (نظام التفاهة) يحوّل الإنسان إلى ملف رقمي أو رقم في إحصائية ، فهو مجرد عنصر إنتاج أو شيء يمكن استبداله ببساطة ، وهو ما يجعل المجتمع يفقد (المعنى) ليبقى الشكل فقط.
ويقدّم الفصل الثالث من كتاب (نظام التفاهة) نقداً لاذعاً للثقافة والفنون في العصر الحديث، مبيناً كيف تهيمن آليات السوق والبيروقراطية والإعلام على جوهر الثقافة، وعلى الرغم من بعض التعميمات، يبقى الفصل من أقوى ما كُتب في نقد البنية الثقافية المعاصرة، لأنه يضع الإصبع على مكمن الخلل وهو: تحويل الثقافة من مشروع إنساني إلى سلعة خاضعة لقوانين الربح والخسارة.

أولا: اختطاف الثقافة وتحوّلها إلى صناعة
يرى (دونو) أن الثقافة فقدت روحها عندما أصبحت تُدار بمنطق القطاع الاقتصادى، فالثقافة التي كانت تعبّر عن تجارب إنسانية وفكرية عميقة، تحوّلت إلى (منتَج) يخضع لمعايير السوق لا لمعايير الإبداع، فالفن يُقاس بعدد المشاهدات، والموسيقى تُقاس بسرعة انتشارها و ليس بجودتها.
والثقافة تُقاس بعدد المتابعين، والكتابة تحولت إلى (محتوى)، فكل شيء يُعرض ليُشاهَد، لا ليُفهم كى يُغيّر، وإنما أصبح الفن (سلعة)، والثقافة (منتجاً)، والحقيقة (مؤثراً).
يصف دونو هذا التحول قائلاً: (الثقافة اليوم تُقاس بعدد المتابعين لا بعمق الفكرة)، في هذا السياق، لم يعد الفنان مطالباً بطرح الأسئلة، بل بإرضاء (الزبون)، وهو ما يؤدي إلى هبوط الجودة وصعود الرداءة.. هكذا تصبح الثقافة خالية من جوهرها النقدي، ومكرّسة للجمود و عدم التطور

ثانيا: موت العمق وصعود الفرجة
يُضيء دونو على التحول الذي أصاب الفنون تحديداً ، فالفن، الذي كان قوة لزعزعة المسلمات وتحريك الوعي الجمعي، صار محكوماً بثقافة (الفرجة)، فالجمهور اليوم يهتم بما هو (يوحي بالدهشة) لا بما يطرح أسئلة جديدة، ويهتم المنظّمون بما “يبيع التذاكر” لا بما يفتح آفاقاً فكرية. وهنا تكمن المفارقة: التفاهة لا تحتاج إلى عمق كي تنجح، بل إلى إخراج جيّد.
والجمهور – الذي غمرته الصور – أصبح يفضّل السهل، السريع، اللامع.. ولهذا يضيف دونو: (في زمن التفاهة، يكفي أن يلمع الشيء حتى يصبح فنًا)، هنا يبرز معنى كيف يُستبدل المعنى بالشكل، والقيمة بالصورة، والتحليل بالترفيه !!

ثالثا: تراجع المثقف وصعود (الخبير)
يرى (دونو) أن المثقف الحقيقي، الذي يمتلك رؤية نقدية شاملة، أصبح غير مرغوب فيه، واستبدلته المؤسسات بـخبراء تقنيين يعرفون (كيفية تنفيذ المشاريع)ـ لكنهم لا يمتلكون الجرأة على مساءلة النظام.
يقول (دونو): (الخبير لا يزعج أحداً، إنه يعمل داخل الإطار لا خارجه)، بهذا تنجح السلطة في تحويل الثقافة إلى مجال وظيفي تقني، يخلو من الفكر التحرري.

رابعا: البيروقراطية الثقافية وهيئات التمويل
يتحدث الفصل عن المؤسسات التي تقيّم الأعمال الثقافية، والتي أصبحت – حسب تعبير دونو – تعمل بمنطق إداري صرف.. لجنة التقييم اليوم لا تسأل: هل العمل صادق؟ هل عميق؟، هل يغير وعينا؟، بل تسأل: هل يتوافق مع خانات الاستمارة؟، هل له خطة ترويجية؟ هل يدر أرباحاً؟ هذا التحول يجعل الفنان مجبراً على (كتابة مشاريع) أكثر مما ينتج فناً، أي يصبح موظفاً يسعى للحصول على منحة بدلا من أن يكون مبدعاً يبحث عن معنى.

خامساً: الفن كأداة تلميع سياسي
يشير (دونو) إلى أن السلطات والنخب الاقتصادية تستعمل الثقافة لتجميل صورتها، عبر رعاية المهرجانات والمعارض.. إنها ثقافة (العلاقات العامة) التى لا تنتج فناً حقيقياً، بل تنتج واجهة براقة تغطي خواءً عميقاً ، ويقول عنها (الثقافة تصبح زينة تُعلّق على صدور الأنظمة).
وفي الحقيقة أن (دونو) يمتاز بدقة ملاحظته، فهو لا يكتفي بالتشخيص، بل يربط بين المنطق الاقتصادي (النيوليبرالي) وبين تدهور الثقافة، فهذا النظام يقوم على تقليص دور الدولة في الاقتصاد و تعزيز دور القطاع الخاص و تحرير الأسواق والتجارة العالمية و الخصخصة والتقشف وتقليص الإنفاق الحكومي.
وبالتالى يفرض منطق السوق على كل المجالات، بما فيها الفكر والفن والتعليم، فتُختزل الثقافة إلى منتج استهلاكي.
كما أن تحليله لظاهرة (الخبير) وأثرها في إقصاء المثقف النقدي من أقوى نقاط الفصل، لأنه يبيّن كيف تتحول الثقافة من مجال إنتاج أفكار إلى مجال إنتاج خدمات، ويقدم قراءة جذرية وصادمة لعالم الثقافة والفنون، ويكشف عن آليات دقيقة تعمل على تسطيح الوعي وتحويل الثقافة إلى سلعة.
وهكذا تتحول النيوليبرالية – حسب تحليله – من مجرد سياسة اقتصادية، الى أيديولوجيا شاملة تعيد تشكيل المجتمع والثقافة، بحيث أصبح معيار القيمة هو السوق وحده، والنتيجة: ثقافة سطحية، إبداع مفرغ من المعنى، وهيمنة (التافهين) الذين يجيدون اللعب بقواعد السوق أكثر من إنتاج المعرفة أو الفن الحقيقي .
لكن رغم وجاهة تحليلاته، يمكن التوقف عند بعض النقاط النقدية:
يمكن الاعتراض على (دونو) بأنه يعمم الظاهرة ويغفل أن هناك فنانين ومثقفين ومؤسسات تقاوم هذا التسطيح الذي يصفه.. صحيح أن السوق يهيمن، لكن ليس صحيحاً أن (كل) الثقافة تحولت إلى ترفيه.
التعميم هنا يخلق صورة قاتمة مطلقة ، لا تترك مساحة للمبادرات الفردية أو لتيارات مقاومة.. كما انه لا يتناول دور الجمهور في إنتاج التفاهة، فالجمهور اليوم يسهم بفعالية عبر الاستهلاك السريع، ووسائل التواصل، وثقافة (الإعجاب)، ولكن (دونو) يتجاهل هذا العامل، مركّزاً على المؤسسات وحدها.
وبرغم ان الفصل الخاص بالثقافة في كتابه يُظهر تشخيصاً دقيقاً، لكنه لا يقدم حلولاً واضحة فهى لا يجيب على الأسئلة الرئيسية مثل: كيف يمكن إعادة الاعتبار للمثقف؟ أو كيف يمكن إعادة الفن إلى أصله الإنساني؟
هذا ما يتركه (دونو) مفتوحاً دون إجابة، ولكننا قد نجد الإجابات عند آخرين !!
وللحديث بقية..