رئيس مجلس الادارة : محمد حبوشة
رئيس التحرير : أحمد السماحي

محمد الروبي يكتب: (فيروز) و(أم كلثوم): كيف يختارنا الغناء؟

محمد الروبي يكتب: (فيروز) و(أم كلثوم): كيف يختارنا الغناء؟
تغنّي (فيروز) كما تتنفس الشجرة، بلا جهد، بلا استعراض، بلا حاجة إلى أن تُقنع أحدًا بشيء
محمد الروبي يكتب: (فيروز) و(أم كلثوم): كيف يختارنا الغناء؟
محمد الروبي

بقلم الكاتب والناقد: محمد الروبي

ليس كل صوت يُسمع في أي وقت.. ثمة أصوات نولد معها، نربطها بالضوء، بالهواء، بنَفَس الحياة الأول.. وثمة أصوات لا تُفتح لها الأبواب إلا حين يسكن كل شيء، ونبقى نحن وأسرارنا وحدنا.. بهذا المعنى، لم تكن (فيروز) يومًا مجرد مغنية نحبّها في الصباح… هي نفسها الصباح.

صوتها يُطلّ كما تُطلّ الشمس من نافذة مطبخ صغير، كما رائحة الخبز، كما القهوة الأولى، كما صمت المدينة قبل أن تستيقظ.

تغنّي (فيروز) كما تتنفس الشجرة، بلا جهد، بلا استعراض، بلا حاجة إلى أن تُقنع أحدًا بشيء. هي تعرف طريقها إلى القلب.

هى نفسها قالت ذات مرة:

(كنت أفتح شباك المطبخ في الصباح… فيصلني صوتي من شبابيك الجيران).. هكذا، ببساطة، شرحت لنا ما لم نكن نعرف كيف نصفه. صوتها يصلنا كما يصل النسيم، بلا دعوة، بلا انتظار، بلا مقدمات.

محمد الروبي يكتب: (فيروز) و(أم كلثوم): كيف يختارنا الغناء؟
صوتها لا يُربّت عليك، بل يُوقظك

الصوت الذي يقتحم قلبك

أم كلثوم، من جهة أخرى، لها حضور مختلف كليًا.

هى لا تمرّ عابرة، بل تدخل كأنها ضوء موحٍ من مسرح قديم. حين تسمعها، تشعر وكأنك تجلس في مقعد وثير، وتطلب منها أن تقول كل ما عجزت عن قوله طوال حياتك.

صوتها لا يُربّت عليك، بل يُوقظك.. لا يُمهّد، بل يقتحم، وفي اقتحامه… خلاص.

الأغاني مثل (الأطلال، إنت عمري، سيرة الحب) تمنح المستمع تجربة موسيقية وعاطفية مطوّلة، حيث كل كلمة وكل لحن وكل توقف درامي يصبح شاهداً على قوة الصوت.. أم كلثوم لا تغنّي الحياة اليومية، بل الحياة المؤجلة. لا تبدأ اليوم… بل تُنهيه، وتتركنا مع سؤال عميق: ماذا عشت؟ ماذا ضاع منك؟

محمد الروبي يكتب: (فيروز) و(أم كلثوم): كيف يختارنا الغناء؟
عندما نستمع إلى (فيروز)، نسمع الحياة في تفاصيلها الصغيرة

وللغناء رموز ومعنى

(فيروز) تشبه الندى، أم كلثوم تشبه المطر بعد منتصف الليل.

(فيروز) تُلمّح، أم كلثوم تُعلن.

(فيروز) تُربّت، أم كلثوم تُفتح الجرح.

وفي ظني أن الأمرلا يتعلق  بالأغنية فقط، بل بالزمن الذي تختاره الأغنية لتأتي إلينا. ليس في نبرة الصوت فقط، بل في هيئة حضورها. واحدة تطرق الباب كما يطرق الضوء عينيك، والأخرى تفتح الباب بنفسها وتجعل من قلبك مسرحًا.

عندما نستمع إلى (فيروز)، نسمع الحياة في تفاصيلها الصغيرة: خطوات الأطفال في شوارع بيروت، رائحة الياسمين في أزقة الصيف، قصص الحب الهادئ في (نسم علينا الهوى).

أما أم كلثوم، فنسمع الحياة في عاطفة مركّزة، في الانفجارات الموسيقية، في الطبقات الصوتية الممتدة لساعات، حيث يجعلنا صوتها نعيش كل شعور وكأنه لحظتنا الوحيدة في الكون.

مع (فيروز) تتحول الأغنية إلى سيمفونية بسيطة، موسيقى متناغمة مع الكلمات، مليئة بالمساحات الصامتة التي تسمح لنا بالتنفس معها. بينما أم كلثوم تعمل مع كبار الملحنين لتصنع أغنية طويلة، غنية بالتقنيات الصوتية المعقدة، تتحرك بين الطرب الكلاسيكي والمقامات الشرقية، لتجعل المستمع يتتبع كل جرح، كل نفَس، كل توقف درامي.

محمد الروبي يكتب: (فيروز) و(أم كلثوم): كيف يختارنا الغناء؟
(فيروز) في كلماتها تميل إلى البساطة والشاعرية اليومية

لغة القلب

(فيروز) في كلماتها تميل إلى البساطة والشاعرية اليومية، حيث يتحرك الحب والحياة مثل نسمات خفيفة. كلماتها تصل مباشرة إلى القلب دون حاجز، سواء في (سألوني الناس، أو رجعت الشتوية، أو أو أو).. اللحن عندها غالبًا ممتد لكن لا يضغط، كما لو أن الموسيقى جزء طبيعي من الهواء.

(أم كلثوم)، على العكس، تعتمد على كلمات معقدة، تنقل فلسفة الحب والحنين والموت والقدر، مثل (أنت عمري، الحب كله، أمل حياتي، و..و..و..)، وتدمجها في ألحان طويلة، مع مقامات دقيقة، تجعل المستمع يعيش كل كلمة وكأنها قصة كاملة. هنا، الصوت ليس مجرد وسيلة للتعبير، بل أداة لخلق الزمن نفسه، لاحتواء كل المشاعر في ساعة أو أكثر.

محمد الروبي يكتب: (فيروز) و(أم كلثوم): كيف يختارنا الغناء؟
مع (أم كلثوم)، نشعر أن الغناء لم يأتِ فقط لإمتاع أذننا، بل ليختارنا

أثر الزمان والمكان

الأمر ليس مجرد تفضيل شخصي، بل تجربة زمنية وروحية: (فيروز) في الصباح، أم كلثوم في الليل.. واحدة تحضننا بحنان خفيف، والأخرى تتحدى قلوبنا وتجعلنا نعيد اكتشاف أنفسنا.

المكان أيضًا مهم: فيروز تصلح لمكان مفتوح، شارع، حديقة، أو حتى مطبخ يطل على البراح. بينما أم كلثوم تصلح للمسرح الكبير، قاعة الصوت، المكان الذي يحتاج إلى حضور وإجلال. كل واحدة تختار “مساحتها” الخاصة لتسكننا.

في كل مرة نسمع (فيروز) أو (أم كلثوم)، نشعر أن الغناء لم يأتِ فقط لإمتاع أذننا، بل ليختارنا.. ليكون مرآة لأوقاتنا وأحلامنا، لأفراحنا وأحزاننا. الغناء هنا ليس مجرد صوت، بل حياة كاملة تُعاد أمامنا في شكل موسيقى وكلمات وحركة.

(فيروز) تجعلنا نعيش التفاصيل اليومية، تجعلنا نحب الحياة كما هي، بلا استعراض، بلا دراما. أم كلثوم تجعلنا نعيش العاطفة بكل قوة، تجعلنا نواجه الجرح، نكتشف الحنين، نختبر الانفجار العاطفي الذي يحرّرنا.

محمد الروبي يكتب: (فيروز) و(أم كلثوم): كيف يختارنا الغناء؟
الغناء مع فيروز ليس مجرد فن، بل فعل وجود

الغناء فعل وجود

الاختلاف بين (فيروز) و(أم كلثوم) ليس مجرد اختلاف ذوق شخصي، بل اختلاف تجربة موسيقية وإنسانية. واحدة تعلمنا الحب في صمت الصباح، والأخرى تعلمنا الحياة في صخب الليل. كل واحدة منهما تختارنا كما نختارها، كل واحدة تُعيد تعريف الزمن والمكان والمشاعر.

الغناء هنا ليس مجرد فن، بل فعل وجود.. وجودنا مع الصوت، وجود الصوت معنا.. هكذا يختارنا الغناء، وهكذا تختارنا فيروز وأم كلثوم: واحدة تهمس في أذنيك، والأخرى تصرخ في قلبك، وكل واحدة منهما تجعلنا نعيش الحياة كما يجب أن تُعاش.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.