رئيس مجلس الادارة : محمد حبوشة
رئيس التحرير : أحمد السماحي

محمود عطية يكتب: فوائد (المهرجانات) !

محمود عطية يكتب: فوائد (المهرجانات) !
يطل علينا أحد (المهرجانات)، وهو (مهرجان القاهرة السينمائي) وغيره من المهرجانات الفنية

بقلم المستشار: محمود عطية

في زمن تتساقط فيه أحلام الناس كما تتساقط أوراق الخريف وتنهار فيه الأسر تحت وطأة الغلاء وتتحول فيه لقمة العيش إلى معركة يومية من أجل البقاء يطل علينا أحد (المهرجانات)، وهو (مهرجان القاهرة السينمائي) وغيره من المهرجانات الفنية وكأنه قادم من كوكب آخر لا يعرف ما يعانيه هذا الشعب من ألم ولا يسمع أنينه ولا يرى عيونه المتعبة التي أرهقها العوز والفقر والانتظار.

سنوات طويلة تمر والمواطن البسيط لا يجد ما يسد رمقه ولا ما يطفئ حرقة قلبه بينما تتدفق ملايين الجنيهات على حفلات الأزياء والرداء والنجوم والنجوم الكاذبة التي تتلألأ على البساط الأحمر، دون أن تقدم شيئاً لهذا الوطن غير الضجيج والصور والعبارات المزيفة عن الفن والرسالة والإنسانية

إن ما يحدث في هذه (المهرجانات) ليس فناً بالمعنى الحقيقي بل هو مشهد ضخم من التبذير والتلميع والاستعراض المقزز لثروة لا يراها أحد خارج أسوار الفنادق الفاخرة وقاعات العرض المبهرة فبينما يقف المواطن في طوابير الخبز والدواء، يخرج علينا الإعلام ليحدثنا عن إطلالة النجمة وعن تصميم الفستان وعن البريق وعن الجمال وكأننا نعيش في دولة من الرفاه والبحبوحة.

وكأننا لا نعرف شيئاً عن الأسعار التي تحرق الجيوب ولا عن الكهرباء التي تقطع ولا عن المياه التي تشح ولا عن المرتبات التي تتبخر.

من يمول كل هذا العبث؟، ومن أين تأتي هذه الأموال التي تنفق بسخاء على (المهرجانات) التي لا تشبع جائعاً ولا تعالج مريضاً ولا تفتح باب عمل لشاب يائس؟، الجواب دائماً ضبابي متوارٍ خلف كلمات منمقة مثل دعم الثقافة وتشجيع الفن والسياحة.

لكن الحقيقة أن هذه (المهرجانات) في كثير من الأحيان تُموَّل من ميزانيات الدولة أو من رعاة يسعون لبريق إعلامي لا أكثر، بينما العائد الحقيقي على الوطن شبه معدوم اللهم إلا صورة في صحيفة ولقطة على شاشة وإعلانات تافهة تسوق التفاهة كأنها حضارة.

محمود عطية يكتب: فوائد (المهرجانات) !

محمود عطية يكتب: فوائد (المهرجانات) !
إن المواطن البسيط الذي يعمل من الفجر حتى منتصف الليل ليطعم أبناءه لايرى سوى العري

المواطن لا يرى سوى الانحلال

إن المواطن البسيط الذي يعمل من الفجر حتى منتصف الليل ليطعم أبناءه لا يهمه من فاز بجائزة الهرم الذهبي ولا يعرف من هي لجنة التحكيم، ولا تعنيه الأفلام التي تتحدث عن معاناة مصطنعة لمخرج يعيش في القصور ويتحدث عن الفقر من خلف زجاج سيارته الفارهة.

هذا المواطن لا يرى من مهرجان القاهرة سوى صور العري والانحلال والضحك المصطنع والتصفيق الأجوف، ولا يجني من كل هذا سوى المزيد من الغضب والإحباط حين يدرك أن أموال الضرائب التي تُنتزع من جيبه تُنفق على هذه المهزلة التي تُسمى مهرجاناً,

يتحدثون عن الفن الراقي وعن الرسالة النبيلة وعن الدور الثقافي، لكن أي رسالة في فساتين لا يعرف ثمنها إلا الله وأي ثقافة في حفلات ساهرة تُعرض فيها أفلام لا يفهمها أحد، وأي رقي في مشاهد العري التي تُبث بلا خجل ولا اعتبار لقيم المجتمع وتقاليده، إن ما يحدث في هذه المهرجانات ليس سوى محاولة لتسويق الانحلال تحت شعار الحداثة والانفتاح وكأن كرامة المجتمع يمكن أن تُباع مقابل كاميرا وإضاءة

لقد تحول مهرجان القاهرة السينمائي إلى مناسبة موسمية لتلميع الوجوه ذاتها وإعادة تدوير أسماء فقدت بريقها منذ زمن، والنتيجة أن الفن الحقيقي غاب والمبدع الحقيقي اختفى والمجتمع لم يعد يرى في السينما إلا وسيلة للهروب من الواقع، أو أداة لتسطيح الوعي ودفن القضايا الكبرى تحت كومة من الصور والضوضاء والكلمات الخاوية.

ما الجدوى من مهرجان لا يترك أثراً إيجابياً على صناعة السينما نفسها؟، أين أفلام المهرجان من دور العرض؟، وأين دعم المواهب الحقيقية؟، وأين التعليم الفني؟، إن المهرجان صار جزيرة معزولة عن الواقع يعيش فيها الصفوة ويحتفلون فيما البقية في الخارج يواجهون أزمات الخبز والدواء والغاز والوقود وكأننا شعبان في وطن واحد شعب يحتفل وشعب يحتمل.

المدهش أن المنظمين يتحدثون كل عام عن إنجازات عظيمة وعن حضور دولي وعن مشاركة ضخمة، بينما لا يرى الناس من ذلك شيئاً ملموساً على الأرض لا صناعة سينما حقيقية نمت ولا فرص عمل جديدة وُجدت ولا حركة ثقافية حقيقية انتعشت، بل على العكس ازداد التباعد بين المواطن وبين ما يسمى النخبة الفنية حتى صار الفن بالنسبة له مرادفاً للفساد الأخلاقي ولإهدار المال العام.

محمود عطية يكتب: فوائد (المهرجانات) !

محمود عطية يكتب: فوائد (المهرجانات) !
في ظل هذه الظروف الاقتصادية القاسية يصبح إقامة (المهرجانات) بهذه التكلفة أشبه بالترف المعيب والمستفز

أشبه بالترف المستفز

كيف يمكن لمهرجان أن يدّعي خدمة الوطن بينما يفتح أبوابه للعري والتقليد والانبهار بالغرب في كل تفصيل؟، كيف يمكن لمهرجان أن يكون رسالة ثقافية بينما لا يعبّر عن قضايا الناس ولا يعكس واقعهم؟، هل الفن هو أن نحاكي الغرب في شكله وننسى جوهرنا؟، أم أن الفن الحقيقي هو الذي يوقظ الوعي وينتصر للإنسان لا أن يستغل معاناته كخلفية جميلة لمشهد على شاشة؟

في ظل هذه الظروف الاقتصادية القاسية يصبح إقامة (المهرجانات) بهذه التكلفة أشبه بالترف المعيب والمستفز، كمن يقيم حفلاً راقصاً في جنازة الأمة الملايين تُنفق على الزينة والإقامة والطعام والاستضافة، بينما المستشفيات تعاني نقص الأجهزة والمدارس تفتقر إلى المقاعد والطرق تنهار تحت أقدام المارة أي منطق هذا وأي عدالة تلك؟

ثم يتحدثون عن العائد السياحي وكأن السائح سيأتي خصيصاً ليشاهد مهرجاناً محاطاً بالأزمات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، إن السائح يأتي حين يجد وطناً مستقراً آمناً جميلاً لا حين يرى التناقض الصارخ بين فخامة المهرجان وبؤس الواقع، إن من يبحث عن الترويج للسياحة فليبنِ وطناً يحترم نفسه أولاً.

وليس الأمر مقتصراً على مهرجان القاهرة وحده فكل (المهرجانات) العربية تقريباً أصبحت تكراراً لنفس المشهد الاستعراضي الممل البذخ ذاته الكلام الفارغ ذاته الجوائز ذاتها، حتى أصبحت (المهرجانات) مجرد سوق للنفاق الثقافي تتبادل فيه المصالح تحت شعارات براقة عن الحرية والإبداع بينما لا حرية ولا إبداع، بل شبكات من العلاقات والمصالح والصفقات.

أما المواطن البسيط فهو آخر من يُفكر فيه أحد آخر من يستفيد وآخر من يُستشار هو فقط يدفع الثمن ويدفع الضريبة ويتفرج على المشهد من بعيد، ثم يُقال له إن هذا من أجل الفن وإن هذه الصورة المليئة بالعري تمثل التنوير، وإن هذا المهرجان يُظهر وجه مصر الحضاري يا للسخرية أي وجه حضاري يُظهره مهرجان يحتفل فوق جراح الناس؟

محمود عطية يكتب: فوائد (المهرجانات) !
لقد حان الوقت لأن نعيد النظر جذرياً في جدوى هذه (المهرجانات) وفي فلسفتها وتمويلها

حان الوقت لإعادة النظر

لقد حان الوقت لأن نعيد النظر جذرياً في جدوى هذه (المهرجانات) وفي فلسفتها وتمويلها وأن نسأل بصدق هل نحن بحاجة إليها فعلاً؟، هل يمكن لبلد يعاني من الفقر أن يفاخر بمهرجان للترف؟، إن الثقافة الحقيقية لا تُصنع على السجاد الأحمر، بل في المدارس والجامعات والمصانع والمكتبات في الكلمة التي تُبنى لا في الصورة التي تُباع.

مهرجان القاهرة السينمائي وغيره أصبحوا رمزاً للتناقض بين واقع يئن وبين واجهة زائفة تُلمّع لتخدع العالم، إنهم يحتفلون على أنقاض الأمل ويبتسمون أمام الكاميرات بينما خلفهم شعب يكتم صرخته في صمت من شدة الألم.

إن الفن الحقيقي لا يعيش في (المهرجانات) بل في وجدان الناس، أما ما نراه اليوم فليس فناً بل تجارة بالنوايا وتزيين للقبح باسم الجمال وتبرير للانحلال باسم الحرية واحتقار لمعاناة الناس باسم الإبداع، لقد فقدت هذه (المهرجانات) معناها وسقطت أخلاقياً قبل أن تسقط فنياً.

وفي النهاية يبقى السؤال الذي لا يريد أحد أن يجيب عليه ما العائد الحقيقي من كل هذا الصخب؟، لا شيء سوى المزيد من الإحباط المزيد من الانفصال بين نخبة زائفة وشعب صادق بسيط يكافح كل يوم كي يعيش في وطن يبدو وكأنه نسيه تماماً.

* المحامي بالنقض – منسق ائتلاف مصر فوق الجميع

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.