رئيس مجلس الادارة : محمد حبوشة
رئيس التحرير : أحمد السماحي

عصام السيد يكتب: الثقافة و(التفاهة).. (1) !

عصام السيد يكتب: الثقافة و(التفاهة).. (1) !
(التفاهة): بمعنى التسطيح و التفريغ من المعنى) بوصفها معياراً ومحرّكاً وآلية لإدارة المجتمعات

بقلم المخرج المسرحي الكبير: عصام السيد

ذات صباح كنا في نقاش – أنا و بعض الزملاء – حول جدوى (الثقافة) والفن و(التفاهة) في حياة المجتمع، بعد أن انزعجنا من تصور البعض عن (اقتصاديات الثقافة)، أو التي فهموها على وجه خاطئ أن (الثقافة) لابد أن يكون لها عائد مادى (مربح)، متجاوزين عن هدفها الأساسى وهو بناء الانسان و هو عائد معنوى أكثر ربحا و قيمة واستمرارا.

وانتهى النقاش بمقولة لزميل : هكذا نتحول الى عصر التفاهة، ساعتها تذكرت كتاب نظام (التفاهة – (La Médiocratie لمؤلفه الفيلسوف الكندى آلان دونو، أستاذ الفلسفة والعلوم السياسية في جامعة كيبك في كندا، الذى صدرت ترجمته في 2020.

لم أكن قد قرأت الكتاب كاملا، فمنذ صدور النسخة العربية للكتاب تناوله كثيرون بالشرح والتحليل، و كثرت المقالات والدراسات حوله، حتى أننى حين حصلت على نسخة ألكترونية من الكتاب من أحد الأصدقاء لم ألجأ إلى قراءتها.

فقد اكتفيت بما قرأته عن الكتاب ومقدمة المترجمة الدكتورة (مشاعل الهاجري) التي ذكرت فيها الأسباب التي دفعتها لترجمة الكتاب، وكيف أن هناك هدفا من إضفاء التفاهة على كل شيئ.

وبرغم اعتراضى على ترجمة كلمة (La Médiocratie)  بـ (التفاهة) لأنها ترجمة غير صحيحة لغويا، إلى جانب أنها توحى بالإهانة، فمعناها هو (متوسط القيمة او المستوى أو أنصاف الموهوبين كما يقولون)، إلا أن الترجمة صحيحة اصطلاحيا أو هي اقرب للمعنى.

فالكتاب يضم أربعة فصول تتحدث عن تغلغل السطحية والمظهرية الفارغة في كل شيء في حياتنا، ففي زمن يتقدّم فيه الشكل على المضمون، وتُستبدل القيم بالمعايير البيروقراطية، ويعلو صوت (الخبراء) على صوت المثقفين الحقيقيين، يأتي دونو ليكشف طبيعة النظام الذي يحكم هذا العصر: نظام لا يقوم على القيم العليا أو الإبداع.

بل على (التفاهة): بمعنى التسطيح و التفريغ من المعنى) بوصفها معياراً ومحرّكاً وآلية لإدارة المجتمعات.

عصام السيد يكتب: الثقافة و(التفاهة).. (1) !
وما علاقة الرأسمالية بما يقول؟، وما تلك المسماة بالليبرالية الجديدة؟

الرأسمالية المتوحشة

بعد نقاشى مع الزملاء قررت أن أعود الى الكتاب في قراءة متأنية فشدنى ما قرأته، فمضيت أبحث بجدية عن الكتاب وصاحبه، ماذا يقول وماذا يقصد؟، وهل سبقه أحد الى هذا الحقل؟، وما علاقة الرأسمالية بما يقول؟، وما تلك المسماة بالليبرالية الجديدة؟ وغيرها من الأسئلة ثارت في عقلى بقراءتى للكتاب خاصة فصله الثالث المتعلق بالثقافة والفنون.

وفي الحقيقة وجدت الكثير من الإجابات في أماكن متفرقة، فقررت أن أجمعها لخطورتها و شدة احتياجنا لمعرفتها، ومن الممكن تلخيص تلك الإجابات فيما يلى:

وُلد ألان دونو في عام 1970 في مقاطعة كيبيك الكندية، في أرض تتقاطع فيها الغابات الباردة مع دفء الثقافة الفرنسية التي حافظت على جذوتها في قلب القارة الأمريكية.. كان طفلاً يلتقط الأسئلة قبل أن يتعلم الكلمات؛ ينظر إلى العالم كما ينظر المرء إلى متجر مغلق: يعرف أن في الداخل شيئاً مهماً، لكنه لا يعرف كيف يصل إليه.

شبّ دونو في زمنٍ بدأت فيه العولمة تشقّ طريقها، وتتحول المدن إلى مرايا تعكس بعضها بعضاً، بينما يضيع الإنسان في تشابه الواجهات واللغات.. لم يكن يهوى الضجيج؛ كان يبحث عن الفكرة التي تقف خلف الأشياء، لا عن الأشياء ذاتها.

وهكذا حملته أسئلته إلى مقاعد الفلسفة في جامعة مونتريال، حيث وجد للمرة الأولى أسماء تشبه حدسه الفكري: فلاسفة ونقّاد لا يكتفون بوصف العالم، بل يتجرأون على إعادة صياغته.

وفي باريس – في جامعة باريس 8 – اكتمل المزيج . هناك، في مدينة تتجاور فيها المكتبات مع المقاهي، وتتراكم فيها ثمانية قرون من الفكر على ضفاف السين، تعلّم دونو أن الفكر ليس امتلاكاً للمعرفة، بل قرار شجاع بالوقوف خارج القطيع.

في تلك السنوات، لم يصبح فيلسوفاً بالمعنى التقليدي، بل تحوّل إلى قارئ شرس للسلطة، ومراقب دقيق للطرق التي تتخفى بها الهيمنة في اللغة، في الاقتصاد، وفي تفاصيل الحياة العادية.

عاد إلى كيبيك محمّلاً بأسئلة أكبر من الحدود، واختار أن يعمل باحثاً في جامعة كيبيك في مونتريال، لا لأنه أراد مهنة جامعية هادئة، بل لأنه كان يبحث عن منصة يمكن أن يواجه منها أعتى ظواهر عصره: الشركات المتعددة الجنسيات، الرأسمالية المتوحشة، والملاذات الضريبية التي تُهرّب الثروات وتُفقِر الشعوب.

عصام السيد يكتب: الثقافة و(التفاهة).. (1) !
لكن كتابه (نظام التفاهة) هو الذي جعله اسماً يليق بعصره

كتاب (نظام التفاهة)

لم يكن دونو يحبّ أنصاف الكلمات.. بل كان يكتب كما لو أنه يمشي في حقل ألغام، يزن كل جملة، ويتقدم رغم معرفته بأن الحقيقة في زمن المصالح ليست ضيفاً مرغوباً فيه.. كتب عن النفط، عن الذهب، عن الشركات، عن الفساد.. لكن كتابه (نظام التفاهة) هو الذي جعله اسماً يليق بعصره: عصراً انقلبت فيه القيمة إلى علامة تجارية، والإنسان إلى ملف، والمعرفة إلى محتوى سريع لا يكاد يستقر حتى يتبخر.

لم يكن دونو ثائراً، بل كان حارساً يقف على بوابة العصر، ينبهنا إلى ما نفقده كل يوم دون أن ندرك: احترامنا للتفكير، لكرامتنا المهنية، لحقنا في أن نكون عميقين وسط سوق يبيع السطحيات بثمن باهظ.

في كتاباته، تشعر أن الرجل لا يخاطبك من برج أكاديمي، بل من مكان أقرب إلى تجربتك اليومية: من المكتب المزدحم بالمهام، من الشاشة التي تلتهم وقتك، من المؤسسة التي تقيسك بالأرقام وتنسى ما لا يُقاس.. يكتب كي يذكّر العالم بأن الإنسان أكثر من (مؤشر أداء)، وأن وظيفته في الحياة ليست أن يكون قابلاً للاستبدال، بل قادراً على التفكير.

هكذا عاش دونو، ولا يزال: فيلسوفاً بملء الكلمة، لا لأنه يحمل شهادة في الفلسفة، بل لأنه لا يتوقف عن مساءلة العالم.. وبين الأسئلة التي جمعها في طفولته وبين الكتب التي يكتبها اليوم، يبدو أنه اختار طريقاً واحداً: طريق من يؤمن أن الفكر ليس ترفاً.. بل شكل من أشكال الشجاعة.

و لأن (دونو) ليس مجرد أكاديمي يراقب الظواهر من بعيد، بل هو صوت نقدي عميق عُرف بدراساته الجريئة حول النفوذ السياسي والاقتصادي وتحوّلات المجتمع فإنه يقدم لنا كتابه (نظام التفاهة) ليؤكّد أن (التفاهة) لم تعد حالة عابرة أو ظاهرة اجتماعية، بل أصبحت نظاماً كامل البنية، له مؤسساته ولغته ومصالحه وآلياته التي تفرض السطحية وتقصي الكفاءة وتستبدل التفكير بالامتثال.

عصام السيد يكتب: الثقافة و(التفاهة).. (1) !
كيف انقلبت الثقافة والفنون والسياسة إلى عروض خفيفة تفتقر إلى الجوهر

مجرد مسمار في ماكينة ضخمة

ويقدّم دونو عملاً ليس مجرد تحليل، بل صدمة فكرية ضرورية تكشف كيف أصبحت الرداءة تُدار كمنهج، وكيف تحوّل البشر إلى (قابلين للاستبدال)، وكيف انقلبت الثقافة والفنون والسياسة إلى عروض خفيفة تفتقر إلى الجوهر، لكنها تهيمن على الحياة العامة بكفاءة مذهلة.

وهكذا، يفتح الكتاب أمام القارئ نافذة واسعة لفهم ما يجري حوله، ويقدّم أدوات تساعده على مقاومة هذا الانحدار، واستعادة قيمة الإنسان بوصفه كائناً قادراً على التفكير، لا مجرد مسمار في ماكينة ضخمة اسمها (نظام التفاهة).

ويعتبر الفصل الثالث من الكتاب أحد أكثر فصول العمل إثارة للجدل، لأنه يتناول أحد أخطر ميادين الهيمنة في العصر الحديث  الثقافة والفنون.. ففي الوقت الذي يُفترض فيه أن تكون الثقافة مجالاً لتحرير الإنسان وتطوير وعيه، تصبح – حسب دونو – مجرّد آلية لإنتاج (التفاهة) وتسويقها.

فهو يقدم في هذا الفصل نقداً لاذعاً للثقافة والفنون في العصر الحديث، مبيناً كيف تهيمن آليات السوق والبيروقراطية والإعلام على جوهر الثقافة.. وعلى الرغم من بعض التعميمات، يبقى الفصل من أقوى ما كُتب في نقد البنية الثقافية المعاصرة، لأنه يضع الإصبع على مكمن الخلل  تحويل الثقافة من مشروع إنساني إلى سلعة خاضعة لقوانين الربح والخسارة !!

إن قراءة هذا الفصل تجعلنا ندرك أن مقاومة (التفاهة) تبدأ من إعادة الاعتبار للفكر الحر، وللفنان الصادق، وللمثقف الذي يزعج أكثر مما يطمئن.

ولكن السادة المسئولين لا يريدون من يزعج ، بل يريدون الاستمرار في نومهم وادعين !!

وللحديث بقية..

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.