
بقلم الكاتب الصحفي: رسمى فتح الله
كان الفجر يتسلل بخطاه الهادئة في الجيزة، حين وُلد الطفل (صلاح السعدني) في الثالث والعشرين من أكتوبر عام 1943.
لم يكن في ملامحه ما ينبئ بمصير غير مألوف، سوى هذا الهدوء العميق الذي يشبه الغيم حين يحط على قلب الإنسان. لا أحد كان يظن أن هذا الطفل سيغدو يومًا وجهًا لا يغيب عن مساءات البيوت المصرية.
اسمه لم يكن طنانًا، بل بسيطًا كضحكته، وصوته الذي ظل يحمل صدق الإنسان المصري أينما ذهب.
لم يخن فنه ، ولم يتخل عن أصالته، بل مضى في طريقه كمن يعرف أن النجم الحقيقي لا يُخلق في الأضواء، بل في الإتقان والصدق.

زراعة الفن في أرض الجامعة
تلقى (صلاح السعدني) تعليمه الثانوي في مدرسة السعيدية، ثم التحق بكلية الزراعة بجامعة القاهرة. ولم يكن حلمه الزراعة بقدر ما كانت بوابةً نحو المسرح الجامعي، حيث التقى بصديقه الأبدي عادل إمام.
على خشبة المسرح الجامعي بدأت شرارة موهبته، أدوار صغيرة لم تحدث ضجة لكنها كانت بشارة لنجم متفرد. نجم يمكنه أن يجسد أي شخصية: العمدة، الدنجوان، الموظف، أو المواطن العادي، بكل صدق وإتقان، دون الحاجة إلى أن يكون مرتبطًا بأي صورة نمطية.
شارك لأول مرة عام 1960 في مسلسل الرحيل، ثم توالت أعمال (صلاح السعدني) السينمائية: (الرصاصة لا تزال في جيبي، الغول، زمن حاتم زهران)، والتي أظهرت مرونته وقدرته على التنقل بين الشخصيات المختلفة.
على المسرح، جسد بهجت الأباصيري في مدرسة المشاغبين لمدة ثلاثة أشهر بدلًا من عادل إمام بسبب مرضه، وأدار فرقة الفنانين المتحدين التي نجح في ضم أحمد زكي إليها، ما يوضح قدرته على التأثير والإقناع واحتضان المواهب الجديدة.

ليالي الحلمية.. العمدة خالدًا
جاءت شهرة (صلاح السعدني) الكبرى عبر دوره في ليالي الحلمية، حيث جسد سليمان غانم، العمدة القادم من القلب المصري العميق إلى صخب المدينة ؛ كان من المفترض أن يؤدي الدور (سعيد صالح أو يحيى الفخراني)، لكن القدر وضع الدور في حضنه، ليصبح هذا الدور أيقونيًا لا يُنسى.
(سليمان غانم) لم يكن مجرد شخصية كوميدية أو درامية.. كان روح مصر: طيبًا وساخرًا، ذكيًا لكنه محتاط، محبًا للناس لكنه يعرف حدود كرامته.
في كل مشهد، كان (صلاح السعدني) يبني شخصية من لحم ودم، بضحكته التي تخفي الغيظ، وبنظرته التي تحمل حكمة وتجربة أجيال.

أرابيسك ورجل في زمن العولمة
في أرابيسك، جسد (حسن النعماني) الحرفي النبيل الذي يحلم بزمن أجمل، يعزف الحياة بأنامله على الخشب والصدف، وسط عالم سريع نحو القبح.
الدور كان قصيدة، و(صلاح السعدني) كان قارئها بصوته وتنهيداته، يجعلنا نشعر بروح الشخصية، لا بالكلمات فقط.
وفي رجل في زمن العولمة، أضاء شخصية الموظف الذي يصارع التحولات الكاسحة ويتمسك بالقيم في زمن تُشترى فيه القيم وتُباع. من خلال هذا الدور، برز (صلاح السعدني) كممثل يملك القدرة على نقل الصراع الداخلي، ويمثل المصري المنكوب بالحداثة، الباحث عن موطنه وسط عالم يغير قواعده باستمرار.

بابا عبده والناس في كفر عسكر
في بابا عبده، وقف (صلاح السعدني) بجانب عبد المنعم مدبولي، ولم يكن ممثلًا فقط، بل الابن حاضرًا بكل صدق ودفء.
لم يكن مجرد دور، بل لحظة حية من الانتماء والحنين، توثق صراع الأجيال دون قطيعة.
أما في الناس في كفر عسكر، جسد (عبد القادر)، الرجل الذي يعرف سر الأرض وينطق بحكمتها:
(الأرض بتطرح ناسها يا فطوم.. وبتعرفهم.. أنتي واللي زيّك ما كنتوش من طرح الأرض دي).
مشهد مشحون بالعاطفة والصراع الطبقي، جعل المشاهدين يؤمنون أن الأرض تختار من ينتمي إليها، وأن الشخصية تتجاوز النص لتصبح حقيقة.
في (القاصرات)، لعب دور (عبد القوي)، التاجر المسن الذي يهوى الزواج من القاصرات، ويستغل ضعف الأسر الفقيرة.
أداؤه كان شديد الواقعية، يعكس تعقيدات النفس البشرية، ويجعل المشاهد يعيش الصراع الداخلي للشخصية ويشعر بمعاناتها. بهذا العمل، ختم صلاح مسيرته الفنية بقوة، لا بخفوت، مسيرته التي امتدت لنصف قرن من الزمن.

رجل لا يساوم على الفن
(صلاح السعدني) لم يكن نجم (تريند)، ولم يلهث وراء أدوار البطولة المطلقة.. كان يختار أدواره بخشوع وصدق.
قال في إحدى الجلسات: (الفن مش شهرة.. ده ضمير الناس. الممثل مش لازم يبقى نجم، لازم يبقى مرآة).
كان قارئًا نهمًا، مثقفًا، متابعًا دقيقًا لما يحدث في مصر والعالم، بعيدًا عن الضجيج الإعلامي، قريبًا من القلوب والعقول. عاشقًا للأدب، ساخرًا من التهريج الفني، ومتألمًا من انسياق الوسط وراء كل جديد بلا تفكير.
كان الصديق الأقرب لعادل إمام، تمتد صداقتهما لأكثر من خمسين عامًا، ومحبًا للنادي الأهلي كما ورث من والدته.. تأثر بشدة لوفاة صديقه نور الشريف،وظل حزينًا فترة طويلة.

الرحيل.. حضور لا يُمحى
انسحب (صلاح السعدني) في هدوء في عام 2013 بعد القاصرات، وغادر جسده في 19 أبريل 2024، لكن حضوره ظل حيًا في وجدان الجمهور، كفنان يملك القدرة على أن يعيش كل شخصية بصدق، دون الحاجة للمبالغة أو التصنع.
ترك أكثر من 200 عملا، لكن إرثه الحقيقي لم يكن في الأرقام فقط، بل في صدقه، وأصالته، ووفائه للجذور، وقدرته على إعادة خلق الشخصية.
(صلاح السعدني) لم يكن يؤدي الأدوار.. بل يسكنها، ويجعل كل شخصية حية أمامنا.
هو لم يغادرنا.. لأن بعض الرجال إذا رحلوا، يبقى مقعدهم ممتلئًا بهم، ويبقى حضورهم خالدًا في ذاكرة الفن والمجتمع.