
بقلم الكاتب الصحفي: محمود حسونة
(قواتنا الناعمة) تتآكل فنياً وتنشط حضارياً ودبلوماسياً، والتآكل ليس بسبب المنتج الفني المصري الذي سيظل يتربع عربياً مهما اشتدّت حدة المنافسة له، والسبب هو المخزون الإبداعي والرؤى المتجددة لدى صناع الفن المصري، باعتبارهم الامتداد الطبيعي لفنانين أضاؤوا المنطقة ونشروا الجمال والنور بأعمالهم التي شكلت الوجدان ليس المصري فقط بل والعربي أيضاً، شاء من شاء وأبى من أبى.
النجوم هم (وش القفص) في العملية الفنية، وهم أصحاب الجماهيرية، وهم الأكثر تأثيراً بكلمات ورؤى غيرهم، وقد كان فنانونا في الماضي البعيد والقريب دوماً يدركون أنهم سفراء مصر في الخارج وأنهم قوتها الناعمة التي تؤثر بها على الخارج، كانوا يعون أنهم أصحاب رسالة ينبغي عليهم أدائها ليس بالأعمال الفنية ولكن أيضاً بالأفعال والأقوال والتصريحات التي يقولونها سواءً وهم في الداخل أو الخارج.
كان فنانونا في جولاتهم الخارجية يتعاملون كما الدبلوماسيين الذين يمثلون مصر في الخارج، وإذا كان الدبلوماسي يمثل الحكومة والدولة فإن الفنان يمثل الشعب والدولة وهو ما يفرض عليه أن يختار كلماته عندما يتحدث، وأن يتحكم في لغة جسده أينما كان، فهو سفير لشعب عظيم صاحب حضارة ممتدة في أعماق التاريخ، شعب علم العالم وبالتالي فإن من يمثله ينبغي أن يكون كامل الوعي دقيق الفعل حريص الكلم.
الوضع اليوم اختلف، التآكل الذي يحدث لـ (قوتنا الناعمة) من جانبها الفني والإعلامي سببه بعض فنانينا وإعلاميينا الذين ارتضوا أن يجعلوا من أنفسهم أدوات علينا لا لنا، سواء نتيجة جهل وعدم وعي بما يقولون ولا ما يفعلون.
أو نتيجة فقدان كرامة والتحول إلى مرتزقة لا يشغلهم سوى جمع المال حتى لو كان المقابل الطعن في الوطن والتشكيك في قدرات أبنائه ومنجزاتهم وتلويث صورة أولي أمره لصالح من يدفع وكأنهم أصبحوا عبيداً ينفذون ما يؤمرون بعد منحهم العقل إجازة وقتلهم الضمير.

استثناها تركي آل الشيخ
التجاوزات تحدث من وقت لآخر، والرأي العام المصري يغضب ويثور على كل من يتجاوز في حق الوطن، ولكن لا أحد يتعلم ولا أحد يسيطر على لسانه ولا أحد يفكر فيما يقول قبل أن ينطق به.
أنغام التي استثناها تركي آل الشيخ من استبعاده للفنانين المصريين خلال موسم الرياض الحالي، أحيت حفلاً هناك خرجت بعده في مؤتمر صحفي لتقول (أنا بنت المملكة العربية السعودية) جملة بسيطة استفزت مشاعر قطاع عريض من شعب يعشق وطنه ويحب أن يعرف نجومه قيمة هذا الوطن ولا يسيئون إليه ولو كان من خلال مجاملة للآخر.
من حقك أن تجامل في أي شيء ولكن لا تجامل بالتنكر لوطنك وإعلان انتمائك لغيره، ولكنه الجهل والاندفاع والرغبة في دفع جزء من الفاتورة المفروضة وإلا سيكون المصير هو ذات مصير باقي نجوم مصر الذين تم استبعادهم من موسم الرياض الذين ساهموا في جعله أمراً واقعاً خلال دوراته الماضية.
المكافأة لأنغام التي نحب صوتها ولا نقبل تنكرها لوالدها، كانت إعلان آل الشيخ إحيائها حفل ليلة رأس السنة في موسم الرياض ولعلها الليلة الأهم خلال الموسم كله.
سقطة أخرى وقع فيها الفنان (ياسر جلال)، والذي تم تعيينه عضواً بمجلس الشيوخ، وبدلاً من أن يلجمه هذا الموقع ويفرض عليه عدم الكلام إلا بما هو مؤكد لديه، أطلق له لسانه ليتحدث بلسان مؤرخ يعلم من التاريخ ما لا يعلمه سواه، ليطل على الناس بكلام يجعله محل سخرية البعض وغضب كثيرين يطالبون بإقالته من مجلس الشيوخ.
(ياسر جلال) فنان نقدره ونحترم أعماله، وما قاله في الجزائر عن حماية قوات جزائرية لميدان التحرير عقب حرب 1967 نقلاً عن والده لم يكن موفقاً فيه، وبدلاً من أن يتحدث عن بلده وجيشها بفخر واعتزاز نال منها بأكاذيب تظهرها بما لم يتقبله الشعب المصري المدرك لقيمة بلاده والمعتز بجيشها.
ولو كان هدفه مجاملة الجزائريين فقد كان ينبغي أن يجاملهم بحقائق لا أكاذيب مصاطب، ولعل ما يغفر لياسر هو اعتذاره وندمه والذي نتمنى منه أن يعي الدرس ولا يندفع مجاملاً ويكتفي بالتمثيل، ولو أراد أن يظهر أمام الناس في صورة السياسي والمثقف عليه أن يذاكر ويقرأ ويبحث قبل أن يتكلم.

ياسر اعتذر ولكن غيره لا يعتذر
ياسر اعتذر ولكن غيره يخطئ ولا يعتذر، بخلاف أخطاء (أحمد سعد ومحمد هنيدي) وغيرهما ممن يخطئون ويتعالون على الاعتذار ليتحولوا إلى قوة هدم تنال من قيمة ومكانة الفنان الشعبية.
أما (عمرو أديب) الذي يتباهى بأنه الإعلامي الأغلى عربياً فإنه كشف بخطاياه المتكررة في حق مصر أنه يتقاضى أجره الكبير مقابل ترويجه لأكاذيب تنال من بلاده، وللأسف لم ولن يدرك أنه أصبح منبوذ من الرأي العام ولعل شتائم الغيورين على مصر له بشكل شبه يومي تكشف سقوطه في قاع الإعلام وستظل حلقاته أكبر إدانة له أمام الأجيال القادمة.
الأسماء سالفة الذكر ليست سوى نماذج لفنانين وإعلاميين يتسببون في تآكل (قوتنا الناعمة) فنياً، ولكن إنتاجنا الفني سيظل يلعب دوره التاريخيّ في التأثير الإيجابي كقوة ناعمة لمصر خصوصاً أن الصناعة الفنية سواء الدرامية أو السينمائية أو المسرحية أو الغنائية لا يتحكم في جودتها وفرادتها النجوم من الممثلين والمغنين فقط.
فهي صناعة ضخمة يطل من خلالها القليل ممن تحقق لهم الشهرة ولكن في الكواليس وخلف الكاميرا الأغلبية الذين يصيغون العمل الفني كتابة وإخراجاً وتصويراً ومونتاجاً ومكساجاً وتلحيناً وتسجيلاً وإنتاجاً وتوزيعاً وبثاً ناهيك عن آلاف العمال الذين يمهدون المواقع والطرق للعملية الإبداعية.
ولأن مصر محروسة لن ينال من مكانتها حفنة من أبنائها العاقين وستظل قوية بـ (قوتنا الناعمة) ودبلوماسيتها الواعية، ففي الوقت الذي انحرف فيه بعض فنانينا عن الطريق الوطني وتحولوا إلى مرتزقة يتاجرون بالوطن والهوية سعياً وراء مكاسب رخيصة، يستيقظ تاريخها ليعيدها إلى مكانتها المستحقة، وليخرج من رحم الزمن العملاق المصري القادر على إبهار العالم بحضارته العظيمة.
وها هو المتحف المصري الكبير يجعل من مصر قبلة للسياحة العالمية ويعيد الحضارة المصرية إلى صدارة قوة مصر الناعمة التي يمكنها أن تفعل ما عجزت عنه أدوات القوة الناعمة التي تصدرت المشهد خلال عقود مضت.