رئيس مجلس الادارة : محمد حبوشة
رئيس التحرير : أحمد السماحي

محمود عطية يكتب: (المتحف المصري الكبير) لا يجوز أن يُختزل في أسماء

محمود عطية يكتب: (المتحف المصري الكبير) لا يجوز أن يُختزل في أسماء
المؤلم حقًا أن مصر، بلد الحضارة الأولى، بلد من أنجبت نوبل في الأدب والعلم والسلام

بقلم المستشار: محمود عطية *

احضرات إنها مصر فتعاملوا بحجمها وليس بالأهواء والشاشات.. فالحديث عن افتتاح (المتحف المصري الكبير) لا يجوز أن يُختزل في أسماء مقدّمي الحفل أو في من يقف على المنصة ليُلوّح أمام الكاميرات، فمصر ليست وجوهًا مكررة ولا أصواتًا محفوظة تخرج علينا كلما أرادت الدولة أن تزيّن مناسبة وطنية بمشهد استعراضي.

مصر أكبر من كل هذا الصخب، وأعظم من أن تُحصر صورتها في دائرة ضيقة من الوجوه التي تصوّرت أن الوطن لا يقوم إلا بها، وأن التاريخ يبدأ وينتهي عند أقدامها.

لقد صار من المؤسف أن نرى الإعلام وبعض المنصات يهللون لأسماء بعينها، يصفونها بالكبيرة وكأنهم يتحدثون عن رموز الأمة، بينما الحقيقة أن الأمر لا يتجاوز كونه اختيارًا جديدًا في سلسلة طويلة من القرارات المتعجلة التي لا تراعي قيمة الحدث ولا رمزية المناسبة.

ومشكلة هذه الاختيارات أنها لا تأتي من فراغ، بل من عقلٍ رسميّ ضاق أفقه حتى لم يعد يرى من هذا الشعب إلا تلك الدائرة الصغيرة من الأسماء المستهلكة التي تتكرر في كل مشهد.

كأن الدولة، بوعي أو بغير وعي، تريد أن تحصر الناس في مجتمع صغير مغلق، لا يتسع إلا لمن يسبّح بحمدها أو يتوافق مع هواها.. مجتمع يعيش على ترديد نفس الأصوات، وإعادة تدوير نفس الوجوه، وكأن ملايين العقول والكفاءات في هذا الوطن غير موجودة، أو محكوم عليها بالصمت والنسيان.

المؤلم حقًا أن مصر، بلد الحضارة الأولى، بلد من أنجبت نوبل في الأدب والعلم والسلام، بلد العلماء والمفكرين الذين أضاءوا الدنيا، تُغفل اليوم علمها وعلماءها.. كأن هناك من يتعمد أن يُبقي الشعب في دائرة ضيقة من الترفيه السطحي والنجومية الزائفة، بينما تُهمّش العقول التي تبني وتفكر وتخترع.

محمود عطية يكتب: (المتحف المصري الكبير) لا يجوز أن يُختزل في أسماء
بلد يمتلك عقولًا لو وُضعت في مكانها الصحيح لغيّرت وجه الشرق الأوسط كله

افتتاح أعظم متحف في التاريخ

نحن نعيش مفارقة عجيبة: بلد يمتلك عقولًا لو وُضعت في مكانها الصحيح لغيّرت وجه الشرق الأوسط كله، لكنه يُصرّ على وضع المايكروفون في يد الممثل والمغني والمُذيع، ويترك الميكروسكوب في الأدراج المغلقة. بلد يُصفق لصورة على الشاشة، وينسى من يقف في المعمل أو وراء الكتاب أو في المعهد أو على مقعد الدراسة.

هل يُعقل أن يكون حفل افتتاح أعظم متحف في التاريخ – (المتحف المصري الكبير)، الذي يُجسّد حضارة سبعة آلاف عام – مجرد مناسبة استعراضية نبحث فيها عن من “يقدّم الحفل”، لا عن من يُقدّم مصر للعالم كما يليق بها؟

هل يُعقل أن تُختزل حضارة الأهرام وأبناء طه حسين ورفاعة الطهطاوي ونجيب محفوظ في مشهد فني أو كلمة منمقة على منصة؟

من المؤلم أن نرى هذا التكرار الممل للأخطاء، وهذه الجرأة على تسطيح كل ما هو عظيم.. لم يعد الناس يغضبون لأنهم اعتادوا على أن يروا الخطأ يُعاد حتى صار هو القاعدة، والصواب هو الاستثناء.. نحن أمام ظاهرة لا يمكن تفسيرها إلا بأنها سياسة ممنهجة لإبقاء المجتمع في دائرة ضيقة من الفكر والمشهد.

دائرة مغلقة، مريحة للسلطة، لكنها خانقة للوطن.. لقد تحولت المناسبات الوطنية إلى مسرح تجارب لمن لا يرى أبعد من دائرة نفسه، وكأن الوطن ملكٌ خاص يُدار حسب المزاج، لا حسب المصلحة العامة.

لا أحد ينكر أن من تم اختيارهم ربما لم يطلبوا هذا الدور ولم يسعوا إليه، ولكن الخطأ فيمن اختارهم، فيمن لم يبحث في كنوز هذا البلد عن من يستحق أن يمثلها أمام قادة العالم، عن من يليق باسمه أن يُنطق في افتتاح صرح يمثل ذاكرة الإنسانية.

إن المشكلة ليست في الحفل نفسه، بل في الذهنية التي تدير المشهد.. ذهنية تخاف من الجديد، من المختلف، من صوت العلم والفكر، وتحب أن تسمع الصدى الذي اعتادت عليه.. ذهنية تظن أن الوجوه اللامعة في الشاشات هي التي تصنع الوطنية، بينما الوطنية الحقيقية تُبنى في المعامل والمدارس والجامعات والحقول والمصانع.

لقد أصبحنا نعيش في وطنٍ يُكافأ فيه من يتقن الظهور، ويُنسى من يتقن العمل.. من يجيد الكلام يُقدّم في الصفوف الأولى، ومن يجيد العطاء يُدفع إلى الخلف. هذه المفارقة المؤلمة هي التي جعلت الناس تفقد ثقتها في المشهد العام، وتشعر أن كل شيء يُدار في دائرة مغلقة لا يدخلها إلا من حُفر اسمه في قائمة الولاء.

محمود عطية يكتب: (المتحف المصري الكبير) لا يجوز أن يُختزل في أسماء
(المتحف المصري الكبير) ليس مجرد بناء ضخم أو تحفة هندسية، بل رمز لروح مصر

ليس مجرد بناء أو تحفة هندسية

إن الدولة، إذا كانت جادة في بناء المستقبل، فعليها أن تخرج من هذه الدائرة، أن تفتح الباب أمام العقول لا أمام الوجوه، أمام العلم لا أمام الاستعراض. نحن لا نحتاج إلى المزيد من الحفلات والافتتاحات البراقة، بل نحتاج إلى استعادة قيمة الفكرة والمعرفة. نحتاج أن نُعيد الاعتبار للعلماء الذين يُهملون في بيوتهم، بينما تُنفق المليارات على الدعاية والمظاهر.

مصر لا ينقصها المبدعون، بل من يراهم.. لا ينقصها العلماء، بل من يسمعهم. لا ينقصها القامات، بل من يقدّرهم. والبلد الذي يتجاهل عقوله هو بلد يختصر تاريخه في لحظة تلفزيونية، ويفقد مستقبله في دوامة ضوضاء.

إن (المتحف المصري الكبير) ليس مجرد بناء ضخم أو تحفة هندسية، بل رمز لروح مصر، لعمقها وتاريخها وعقلها الجمعي. هذا المشروع كان يمكن أن يكون لحظة لاستعادة الوعي، لتقديم صورة مصر التي تعلّم وتُبدع وتقود، لا صورة مصر التي تستهلك وتصفق وتعيد إنتاج الوجوه نفسها.

لقد سئمنا هذا التكرار، ومللنا هذا المشهد الذي يضع العظمة في يد الصدفة، ويُهدر الفرص في سبيل إرضاء دوائر محدودة لا ترى في الوطن إلا مرآة تعكس وجوهها.

مصر أكبر من هذا بكثير.. مصر لا تحتاج إلى أصواتٍ تُصفّق لها، بل إلى عقولٍ تنهض بها. لا تحتاج إلى مهرجانات لتمجيد الحاضر المصنوع بالإعلانات، بل إلى وعي يربط الماضي بالمستقبل.

أيها السادة، إن مصر التي صنعت التاريخ لا يجوز أن تُدار بعقلية إدارة المناسبات.. مصر التي علّمت الدنيا الحرف لا يليق بها أن تُختزل في حفلٍ يتجادل الناس حول من (سيقدمه).. مصر ليست حفلة، وليست مسرحًا لتجارب الفشل الإداري، ولا ساحة لوجوه فقدت بريقها ولم تجد سوى المنصات الوطنية لتستعيده.

نحن بحاجة إلى لحظة صدق مع أنفسنا.. أن نسأل: إلى أين نمضي بهذا النمط؟ هل نريد فعلاً أن نصنع وطناً يحترم العلم والمعرفة، أم أننا نرضى بمجتمع صغير مغلق يعيش على التصفيق والتكرار؟

الوطن لا يُبنى بالهتاف ولا بالاستعراض، بل بالوعي والعدل والعقل.. إننا نكتب هذا الكلام لا رفضًا للفرح، بل دفاعًا عن المعنى.. لا اعتراضًا على الحفل، بل على أن يُختزل الوطن في مشهد.. نكتب لأننا نريد أن نرى مصر كما يجب أن تكون: دولة تُقدّر علمها، تُكرم علماءها، وتفتح الباب أمام كل من يضيف لبنائها، لا من يلمع في شاشاتها.

إنها مصر يا حضرات، ليست مسرح تجارب ولا ساحة لتلميع الأسماء.. مصر التي كانت تُدرّس للعالم كيف تُبنى الحضارة، لا يليق بها أن تُدار بهذا القدر من الاستسهال والسطحية.

كفى استهتارًا، وكفى دورانًا في نفس الدائرة الضيقة.. آن الأوان أن تعود مصر إلى حجمها الحقيقي… إلى مكانها الذي لا يليق به إلا الكبار حقًا – من العلماء والمفكرين والمبدعين الذين يصنعون التاريخ لا الذين يعتلون المنصات.

* المحامي بالنقض – منسق ائتلاف مصر فوق الجميع

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.