
بقلم الكاتب السوري: عامر فؤاد عامر
رحل الأحد الماضي الشاعر الزجلي الكبير (طليع حمدان)، فخسر الزجل اللبناني واحداً من أركانه الراسخة، وخسر الجمهور صوتاً كان يلخّص وجدان الأرض والناس والجبل في بيت شعرٍ واحد.
لم يكن (طليع حمدان) مجرّد شاعرٍ في ساحة الزجل، بل كان حالة شعريّة متكاملة، ومدرسةً في الأداء واللغة والموقف، تمتدّ جذورها من عمق الجنوب اللبناني إلى وجدان الأمّة كلّها.
منذ بداياته، كان واضحاً أن (طليع حمدان)، موهبة مختلفة، إذّ لم يكتب الزجل ليُصفّق له الجمهور فقط، بل ليقول منطوقه ما لا يُقال. كانت كلماته تشبه حجارة الجبل الصلبة، وفي الوقت نفسه تحمل دفء التراب ورقّة الندى. امتلك قدرة نادرة على المزاوجة بين الجزالة الشعريّة والقرب الشعبي، فكان شعره مفهوماً لعامّة الناس، ومبهراً للنقّاد والمثقفين في آنٍ واحد.
ولد (طليع حمدان)، في بيئةٍ عابقةٍ بالشعر والمواسم والكرامة، من هناك، من القرى التي تحفظ الأصوات قبل الأسماء، خرج صوتٌ لا يشبه إلا نفسه.
دخل عالم الزجل في وقتٍ كانت فيه الساحة مزدحمة بأسماء لامعة مثل: (زغلول الدامور، وموسى زغيب، وجواد نصر الله)، وغيرهم، لكنّه لم يحاول أن يشبه أحداً منهم، بل اختار طريقه الخاصّ؛ طريق الكلمة المقاتلة والقصيدة التي تقول الموقف قبل أن تُطرب الأذن.

الطريق إلى عالم الغناء
كان (طليع حمدان) يرى في الزجل أكثر من فنّ، بل رسالة وانتماء، لم يكن يحبّ الزخرفة اللفظيّة ولا المبالغة في الإيقاع، بل آمن أن قوّة الشعر في صدقه، وأنّ البيت الذي لا يُقال من القلب، لا يصل إلى القلب.
ولهذا ظلّ شعره قريباً من الناس، من لغتهم اليوميّة، من همومهم، من غصّتهم وفرحهم، من قهوة الصباح ومن تعب الأرض.
لم يبقَ طليع حمدان محصوراً في فضاء الزجل على المنبر بل وجد شعره الطريق إلى عالم الغناء فنظم العديد من القصائد للمطربين والنجوم مثل (جورج وسوف ونجوى كرم وسمير يزبك)، كما ذكر ديوان قصائده بأن له تعاون فني مع السيّدة (فيروز ووديع الصافي وكاظم الساهر وملحم زين).
ومن جهة أخرى كانت جوقته (جوقة الربيع) التي تميّزت بجوّ طربي جعل من الجمهور جزءاً حيويّاً يتفاعل مع الشعر والموسيقى لتكون كلّ سهرة لوحة خاصّة على إيقاع الدفوف والمزامير وحماسة الجمهور من جهة مع فرق الشعراء المتنافسة.
كان حضوره كافياً في مهرجانات الزجل، ليملأ المكان، وصوته الجهوري، نبرته الواثقة، طريقته في رفع القافية كما لو أنه يرفع علماً، كلّ ذلك وأكثر جعل منه رمزاً شعبيّاً يتجاوز حدود الفنّ إلى حدود الشخصيّة الوطنيّة.
ولعل أجمل ما ميّز (طليع حمدان) هو أنّه لم يفصل بين الشاعر والإنسان فيه.. كان صادقاً كما هو على المسرح، صريحاً كما في شعره، لا يساوم على كلمته ولا يبيعها برضى التصفيق.

ترسيخ مفهوم (الزجل الموقف)
ترك (طليع حمدان) بصمته في الزجل اللبناني الحديث، وساهم في ترسيخ مفهوم (الزجل الموقف)، ذلك الزجل الذي يحمل قضيّة ومعنى، لا مجرّد وزنٍ وقافية.
كان يؤمن أن الكلمة يمكن أن تكون مقاومة، وأن القصيدة قد تحرس الأرض كما يفعل السلاح، وربّما أكثر.
في زمنٍ خفّ فيه بريق الزجل وتحوّل إلى منافسة صوتيّة، بقي حمدان هو صامداً في مكانه، يكتب كما لو أن كلّ بيتٍ من شعره وصيّةٌ جديدة للأرض والكرامة.
عرفه جمهوره شاعراً شجاعاً، وأحبّه خصومه قبل أصدقائه، لأنّ خصومته كانت شريفة، وصراحته نابعة من محبّة حقيقيّة للفنّ وللبنان.
حين يذكر الزجالون الكبار، لا يمكن أن يمرّ الاسم من دون ذكر (طليع حمدان) كأحد الأعمدة التي حملت هذا الفنّ وحمته من التكرار والتقليد.
اليوم، برحيله، يشعر الوسط الزجلي أنّ صوتاً من الزمن الأصيل قد خفت، وأن قصيدةً طويلة انكسرت في منتصفها. لكن الكبار لا يرحلون حقّاً، بل يتحوّلون إلى صدى يبقى في القلوب، إلى بيتٍ من الزجل نردّده من دون أن نشعر.
الشاعر (طليع حمدان) لم يترك فقط قصائد محفوظة، بل ترك نهجاً في الكتابة والقول، ترك دروساً في الصدق، في الوفاء للكلمة، في الإيمان بأنّ الفنّ هو الوجه الجميل للوطن.
سلامٌ على شاعرٍ جعل من الزجل صلاةً على لسان الجبل، ومن لبنان قصيدةً لا تموت.