(فاتن حمامة).. نجحت في تقديم شرائح مختلفة للأم المثقفة، والبسيطة، والراقية (2 /2)


بقلم الباحث والناقد السينمائي: محمود قاسم
من الملاحظ أن (فاتن حمامة) في نهاية الستينات عرفت الغربة، كما أن أعمالها في السينما المصرية كانت قليلة بشكل ملحوظ، حتي عادت مرة أخري في بداية السبعينيات من خلال فيلمين مأخوذين عن قصص للكاتب إحسان عبد القدوس.
الفيلم الأول هو (الخيط الرفيع) وفيه تقوم بدور محظية تعيش مع رجل ثري، وتنتقل منه كي تعيش مع مهندس شاب يحبها فتقوم بمساندته حتي يحقق أهدافه.

فاتن حمامه وإمبراطورية ميم
أما الفيلم الثاني وهو (إمبراطورية ميم) فإن (فاتن حمامة) صارت أماً لحوالي سبعة أطفال تركهم أبوهم لها كي تتولي تربيتهم، في عائلة ميسورة تقيم في مصر الجديدة.
والأم تعمل في وظيفة إدارية كبيرة بوزارة التربية والتعليم، هي إمراه مخلصة لعملها ولأسرتها، أما الأبناء فهم يدرسون في كافة مراحل التعليم، الكبير منهم لم يتخرج بعد.
وهناك البنات والبنون، لكل منهم مشاكله التي تتناسب مع سنه، فهناك البنت التي تحب زميلها في المدرسة، وتذهب الي بيته دون علم من أمها.
وهناك الابن الذي يدرس الهندسة، والذي يدخل في منافسة مع أمه في انتخابات ديمقراطية مفادها أن علي أعضاء الأسرة أن يختاروا بأنفسهم من يدير الأسرة، وأن يتركوا فكرة غرائز الأمومة جنباً.
وهذه المرأة، التي هي في منتصف العمر، تجد نفسها وسط معركة انتخابية غير متوقعة، وفي الوقت نفسه فإن هناك علاقة عاطفية تربطها بشخص يناسبها.
وتريد أن تبلغ الأبناء أنها ستأتي لهم بأب جديد، إلا أن هذا الأب يغادر المنزل ليلة ظهور النتيجة، مؤمناً أن عليه أن يترك المرأة لمصيرها كأم مع أبناءها.
هكذا صارت (فاتن حمامة) أماً لجيل جديد من الأبناء، عددهم ليس بقليل، يدرسون جميعاً في المدارس الأجنبية، ويعيشون حياة متفتحة في بيت عصري، فيه من يهوي الموسيقي ويدعو أقرانه للاحتفال وإقامة البروفات.
وفيهم الطالبة التي تستقدم زميلها كي يذاكر معها، وفيهم أيضاً الغلام الذي يجرب التدخين لأول مرة، بعد أن أحس أنه قد كبر في السن.
وفي هذا الفيلم هناك أم أخري جسدتها (دولت أبيض) وهي الجدة التي لا يعجبها أحوال أحفادها، وكلما جاءت الي المنزل قررت المغادرة وعدم العودة.
أي أننا هنا أمام ثلاثة أجيال متعاقبة، جميعهم ينتمون الي نفس الطبقة الثرية المثقفة التي تحرص علي أن يتعلم الأبناء فيها بطريقة أفضل التعليم.

أفواه وأرانب
هكذا بلغت (فاتن حمامة) الحلقة الخامسة من العمر، لكنها كانت من وقت لأخر تعود الي أدوار الفتاة الصغيرة التي تقع في الحب لأول مرة، والتي لم تتزوج، مثل دورها في فيلم (حبيبتي) إخراج بركات عام 1973.
وفي فيلم (أفواه وأرانب) عام 1978 كانت هي أيضاً الشابة الصغيرة، الفلاحة (نعمت) التي تعيش مع أختها، وهي إمراه أنجبت الكثير من الأطفال الفقراء، الذين يمثلون أعباء كثيرة علي الأب السكير.
وعلي الأم التي تتصرف كأنها بطن مهمتها إنجاب المزيد من الأبناء، وأيضاً علي الخالة التي يطلبها للزواج أكثر من شخص في محيط القرية.
بل أن أحد الميسورين يعقد قرانه عليها دون أن تعلم من خلال ما يقدمه من هدايا إلي زوج أختها، فتهرب من القرية وتذهب الي مكان بعيد تعمل فيه.
ومن خلال مهارتها تنتقل (نعمت) الي طبقات إجتماعية أعلي منها بكثير، وتتزوج المهندس صاحب الأرض والمشاريع، وتتغلب علي مشاكلها، وتستجلب كل أصحاب كل هذه الأفواه كي يعملوا في المزرعة، وتنقلهم الي طبقتها.
وكان من المفروض أن نري هذا التحول في فيلم جديد يحمل اسم (كفر نعمت) أسوة بالمسلسل الإذاعي الذي كتبه سمير عبد العظيم، لكن إنتاج الفيلم لم يتم.

لا عزاء للسيدات
في آواخر السبعينات كانت (فاتن حمامة) تعود الي السينما بين وقت وأخر، ومن أبرز أدوارها دور الزوجة المطلقة في فيلم (ولا عزاء للسيدات) إخراج بركات عن قصة لكاتبة إيطالية الأصل اسمها (كاتيا ثابت).
هى هنا في هذا الفيلم زوجة لرجل تركها من أجل عشيقته وهي لم تعرف الأمومة قط، فتعمل في أرشيف إحدى المؤسسات الصحفية.
وترتبط برئيس التحرير الذي لن يسامحها أبداً عندما يعلم أنها وقعت في الخطيئة، تلك الخطيئة الوهمية التي نسجها طليقها كي تعود إليه.
فدفعت المرأة الثمن باهظاً بسبب عقلية من ارتبط بها، سواء الزوج السابق أو رئيس التحرير الذي من المفروض أن يكون علي أعلي مستوي من الثقافة والرقي الاجتماعي.

ليلة القبض على فاطمة
تكرر المشهد من جديد في فيلم (ليلة القبض علي فاطمة) إخراج هنري بركات 1984، حيث نذرت (فاطمة) حياتها لرجلين وفقط.
الأول هو أخيها الذي كان وغداً معها طوال حياته، منذ أن كان شاباً صغيراً يساعد قوات الاحتلال المعادية عام 1956 في مدينة بورسعيد.
ويقوم بتسهيل نقل الأسلحة إليهم لضرب أبناء مصر من المناضلين، هذا الشاب الانتهازي صار مع الزمن شخصية سياسية واجتماعية مرموقة في بلده بورسعيد.
ويقف ضد مصلحة أخته في الزواج من حبيبها الذي وعدها بالزواج منذ أن كان في مقتبل العمر، إنه يري كم أن هذا الرجل لا يناسب المستوي الاجتماعي الذي بلغه (جلال).
وينتظر الاثنان الفرصة والزمن يتحرك دون أن تحل المشكلة، وتصبح فاطمة عجوز، ويقوم الأخ بتدبير جريمة للرجل الذي يقضي في السجن سنوات طويلة.
وعندما يخرج من السجن يصبح عليه أن ينفذ وعده، فـ (فاطمة) انتظرت طويلاً دون أن تحصل علي حبيبها.
و(جلال) صار واحداً من أعمدة الحياة السياسية في منطقة القناة في تلك المرحلة، كل ما يعرفه هو أن يكون انتهازيا مستبداً، ولا يزال مصراً أن تبقي أخته بدون رجل لأنه لا يناسبها.
يعني هذا أن (فاطمة) لن تعرف الزواج، وأيضاً لن تعرف الأمومة، حيث يرسل أخوها عدداً من الرجال إليها للقبض عليها والإمساك بها، إلا أنها تجلس فوق سطح أحد المنازل وتخبر من حولها بالقصة من بدايتها، وأنها ليست أبداً مخبولة مثلما يزعم أخوها.

يوم مر.. ويوم حلو
في الفيلمين الأخيرين لـ (فاتن حمامة)، كانت هي الأم، وللمرة الأولي تقوم بدور إمراه فقيرة في منطقة شبرا، تعيش مع أبناءها، وهم أيضاً كثيري العدد، شديدي الفقر، وأغلبهم في سن الزواج.
وتعاني أن الفتاة التي تزوجت قد صارت أسيرة لسطو زوجها، إنها تعيش في ظروف بالغة السوء، فابنها الصغير الوحيد يضطر للعمل في الفرن كي يدبر قروشاً قليلة لصالح الأسرة.
ويصور الفيلم مدي انحطاط المستوي الاجتماعي الذي تعيش فيه المرأة وذلك في فيلم (يوم مر.. يوم حلو) إخراج خيري بشارة.

فاتن حمامه وأرض الأحلام
من الواضح أن (فاتن حمامة) هنا تتعامل مع المخرجين الجدد في تلك السنوات، فبعد (خيري بشارة) توافق علي العمل مع زميله (داوود عبد السيد) في فيلم (أرض الأحلام) عام 1993.
والذي تدور أحداثه من جديد في منطقة راقية، هي مصر الجديدة، المرأة هنا تحكي عن الفيلا التي تسكن فيها، وعاشت سنوات طويلة مع أمها العجوز، وأيضاً مع زوجها الذي مات وترك لها عدداً من الأولاد والبنات.
ذهب بعضهم الي الولايات المتحدة للعيش فيها، تروي الأم عن تلك الشجرة الصغيرة التي كبرت معها، وهي مزروعة مع غيرها حول سور الفيلا، المرأة هنا مثقفة، صارت أكبر سناً.
وقد جاء الوقت علي أمها أن تذهب الي بيت المسنين بعد أن انشغل الأحفاد كل في عمله أو حياته الشخصية، هذه المرأة تجد الرعاية الشديدة من أولادها.
وتستخرج جواز سفر للرحيل عن مصر والإقامة هناك، والفيلم عبارة عن رحلة لمحاولة العثور علي جواز السفر الذي اختفي في ليلة رأس السنة.
وتأخذ المدينة المرأة الي أماكن عديدة بحثاً عن ما ضاع، وعندما تجده فإن الحلم بالسفر يكون قد خبا، وربما الي الأبد.