
بقلم الكاتب الصحفي: بهاء الدين يوسف
على عكس البعض أرى أن الهبة التي قام بها عشرات الصحفيين في مواجهة مزاح الفنان الشاب (طه دسوقي) عن بعض الممارسات الصحفية (السمجة) مع الفنانين، أضرت بالمهنة أكثر بكثير مما أفادتها، كونها أثبتت ما يردده الكثيرون من أن الصحافة عادت كما بدأت قبل ما يزيد عن قرن ونصف القرن، مهنة من لا مهنة له.
لم أفهم وقد قضيت حوالي 35 عاما في بلاط صاحبة الجلالة، تتلمذت في بدايتها وتعاملت مع نخبة ممن بقوا من عمالقة المهنة في تسعينات القرن الماضي، عصبية بعض الصحفيين ضد الفنان الشاب، واعتبارهم أن الصحافة ومن يمارسونها غير قابلين للنقد.
المدخل الوحيد لفهم هذا الموقف هو استيعاب أن عدد غير قليل ممن يمارسون الصحافة هذه الأيام، لم يتعلموا شيئا من قيم المهنة ودورها المجتمعي المهم، ربما بفعل الفصل (المتعمد) بين جيل الكبار والأجيال الشابة، وربما لأن كثير من المواقع والصحف أصبحت تحت وطأة البحث عن توسيع نطاق متلقيها، مجرد إماء (مؤنث العبيد) للترند لا هم لهم سوى تلبية طلبات السيد “سوشيال ميديا” لترويج منشوراتهم.
لم يفكر المعترضون على مزاح (طه دسوقي) للحظة في أن انفعالهم ضد الفنان الشاب، يكمن فيه تفنيد أهم مطالب الجماعة الصحفية وهو حق النقد، فبأي وجه الآن يمكن أن نطالب المسؤولين بتقبل النقد في الصحف ووسائل الإعلام، بينما هم يتفرجون على البعض منا وقد انتفضوا غضبا من فنان انتقد ممارسات البعض ممن يمارسون المهنة وهي منهم براء؟!
لم يسمع الغاضبون ما قاله الأستاذ هيكل في حوار مع الأهرام عام 1985، من أن الصحافة سلطة، والسلطة التي لا تسائل نفسها تفقد حقها في مساءلة الآخرين، مثلما لم يقرأوا مقدمة الأستاذ أحمد بهاء في كتاب (الصحافة فوق المحنة) التي كتب فيها أنه (ليس عيباً أن نخطئ، ولكن العيب أن لا نراجع أنفسنا ولا نسمح لأحد بأن يراجعنا)؟
وأكيد أنهم لم يفهموا ما قاله الأستاذ صلاح حافظ أن (أخطر ما يصيب الصحافة أن تظن أنها فوق النقد، فهي حينئذ تفقد ضميرها المهني).

الفلسفة الحاكمة للعمل الصحفي
في الغرب يؤمن الصحفيون أن الفلسفة الحاكمة للعمل الصحفي القائم على النقد والنقد المتبادل هى فلسفة المساءلة العامة، التي ترى أن الصحافة ليست مجرد ناقل للأخبار، وإنما هي سلطة رقابية هدفها كشف الخطأ، وتصحيح المسار، ومساءلة السلطة، ولكي تكون صادقة ونزيهة في فعل ذلك، عليها أن تتقبل مساءلة نفسها.
كما أن العديد من كبريات الصحف والمنصات الاعلامية مثل هيئة الاذاعة البريطانية (بي بي سي) والجارديان لديها إدارات مختصة بتلقي شكاوى الجمهور وتصحيح الأخطاء علنا، كما أن صحيفة عريقة مثل نيويورك تايمز لديها صفحة عنوانها (تصحيح) أو (Corrections) تنشر يومياً أخطاء التحرير والتصحيح بشفافية، وهو شكل من تقبل النقد والاعتراف بالخطأ.
مفارقة تثير الضحك الذي كالبكاء كما قال المتنبي، أن غضبة بعض الصحفيين من نقد او مزاح او حتى سخرية (طه دسوقي) من بعض ممارسي المهنة، تزامنت مع قيام موظف كبير في وزارة الآثار بتقديم بلاغ ضد زميل صحفي كان من أوائل من كشفوا عن سرقة الاسورة الاثرية من المتحف المصري قبل أسابيع.
وهى مفارقة كفيلة بإحباط كل الجهود التي تبذل لإقناع الدولة ومسؤوليها بضرورة تقبل النقد واستيعابه.
أظن وليس كل الظن إثم إن غضب بعض الصحفيين من (طه دسوقي) نابع من قناعتهم بأن الصحافة مهنة سلطوية بالمعنى المباشر وليس المجازي، فهي ليست سلطة رابعة لأنها تمارس دورها في كشف الفساد وتعرية الأخطاء باعتبارها عين الشعب على المسؤولين، وإنما هي سلطوية لأنها تتسابق لخدمة صاحب السلطة في أي مجال.
أتذكر في هذا السياق الانتقادات الشعبية الحادة التي واجهتها (بي بي سي) عقب تغطيتها المنحازة للحرب على العراق في عام 2003، وكيف استقبلت الهيئة الانتقادات باستقالة رئيسها ومدير الأخبار في اعتراف واضح بالمسؤولية.
فهل تتذكر كم رئيسا لتحرير أي صحيفة مصرية استقال أو أقيل من منصبه بسبب أخطاء أو انحياز أو تقصير في تغطية أي حدث؟!، لكن في المقابل يوجد كثيرون اقيلوا أو أجبروا على الاستقالة من مناصبهم إذا وجد في صحفهم ما يعكر مزاج مسؤول كبير.
أخشى أن هذا التحول في الأداء سوف يترتب عليه (أو ترتب بالفعل) تحول في المفهوم ليكون الصحفي مثل مهرج الملك في قديم الزمان، عليه أن يسليه ويحكي له القصص التي تعدل مزاجه، وفي المقابل يتمتع بنفوذ وثراء نسبي يميزه عن باقي الشعب، لكن المؤسف ان بعض الصحفيين يمارسون دور المهرج دون أن يحصلوا على مميزاته.