رئيس مجلس الادارة : محمد حبوشة
رئيس التحرير : أحمد السماحي

إبراهيم أبوذكري يكتب: حكايتي مع الإعلام وصناع الإعلام (23).. شقيقي (وجيه أبوذكري)

إبراهيم أبوذكري يكتب: حكايتي مع الإعلام وصناع الإعلام (23).. شقيقي (وجيه أبوذكري)
طلبتُ من شقيقي (وجيه أبوذكري)، الكاتب والأديب الكبير، أن يقرأ لي نصًا من أحد مسلسلاتي

* النص الذي لم يُقرأ.. أثمر نتائج ملموسة في المشهد الدرامي!

* حكاية اللجنة المهنية التي تعمل في الخفاء بمدينة الإنتاج الإعلامي!

بقلم الدكتور: إبراهيم أبوذكري *

حدث ذات يوم أن طلبتُ من شقيقي (وجيه أبوذكري)، الكاتب والأديب الكبير، أن يقرأ لي نصًا من أحد مسلسلاتي.. كنت أعلم يقينًا أن كثيرًا من المنتجين سعوا قبلي لنيل هذه الفرصة، لكنه رفضهم جميعًا بحزم لا يعرف المجاملة.. ظننت أن القرابة قد تكسر القاعدة، وأنه لن يرد طلبي.

وافق شقيقي (وجيه أبوذكري)، بعد إلحاحٍ منّي.. جلس يقرأ الحلقة الأولى بتركيز، كعادته حين يتعامل مع الكلمة.. كان قارئًا استثنائيًا؛ يلتهم النصوص كما يلتهم العطشان جرعة ماء باردة.. وحين انتهى من القراءة، أغلق الأوراق، سلّمني بقية الحلقات كما هى، وقال بهدوء:

– (لن أستطيع أن أكمل).

سألته متعجبًا:

– ولماذا؟ ألستُ أخاك؟

ابتسم ابتسامة هادئة وقال:

– (الكاتب يا إبراهيم ليس مجرد آلة تسجل كلمات.. إنه حصيلة ما قرأه وما عاشه من تجارب.. ونبوغه هو أن يفرغ هذا كله على الورق بصوته الخاص.. لو قرأت نصك كاملًا الآن، قد يتسرب شيء منه إلى داخلي دون قصد.. ربما أستعير مخرجًا دراميًا، أو أستلهم حلاً من حلولك الفنية، وأنا أكتب نصي الذي بين يدي. ساعتها لن أكون وفيًا لذاتي، ولا لك).

كانت كلمات قليلة، لكنها بالنسبة لي درس عمر.. لم يكن رفضه تجنّبًا لنصي، بل كان احترامًا مزدوجًا: احترامًا لي كي يظل عملي لي وحدي، واحترامًا لنفسه كي يبقى صوته الإبداعي نقيًا وصافيًا.

إبراهيم أبوذكري يكتب: حكايتي مع الإعلام وصناع الإعلام (23).. شقيقي (وجيه أبوذكري)
أدركت أن ما قاله (وجيه أبوذكري) لم يكن مجرد اعتذار أدبي

انعكاس الدرس عليّ شخصيًا

مع مرور السنين، أدركت أن ما قاله (وجيه أبوذكري) لم يكن مجرد اعتذار أدبي، بل كان قانونًا من قوانين الإبداع.. تعلمت أن كل كلمة أكتبها أو كل مشهد أنتجه يجب أن يخرج من داخلي أنا، من تجربتي ورؤيتي الخاصة، لا من استعارة غير واعية.

حين عملت في الصحافة، اكتشفت أن الكاميرا مثل القلم، وأن الصورة مثل الجملة.. إن لم تحمل بصمتي، فلن يكون لها قيمة حقيقية.. لذلك كنت أبحث دائمًا عن زاوية مختلفة، عن كلمة جديدة، عن طرح لم يسبقني إليه أحد.

وحين دخلت مجال الإنتاج التلفزيوني، كان أمامي طريقان:

  • إما أن أقلد الموجود، وأعيد إنتاج ما نجح مع الآخرين.
  • أو أن أتحمل المغامرة، وأصنع خطي الخاص.

واخترت الطريق الأصعب: صناعة خط خاص بي.. كان صدى كلمات (وجيه أبوذكري)، يتردد داخلي دائمًا: (الإبداع هو أن تُخرج ما بداخلك أنت، لا ما استعرتَه من غيرك).

إبراهيم أبوذكري يكتب: حكايتي مع الإعلام وصناع الإعلام (23).. شقيقي (وجيه أبوذكري)
في عالم الدراما والفن، كثيرون يظنون أن الإبداع مجرد أفكار تتكرر في قوالب جديدة

صناعة الإبداع مسؤولية

في عالم الدراما والفن، كثيرون يظنون أن الإبداع مجرد أفكار تتكرر في قوالب جديدة.. لكن الحقيقة التي أدركتها أن الإبداع مسؤولية أخلاقية قبل أن يكون مهارة فنية. مسؤولية أن تكون صادقًا مع نفسك، وألا تستسهل النقل أو الاستعارة، بل أن تتعب لتكتشف صوتك الحقيقي.

لقد فهمت من درس (وجيه أبوذكري) أن الإبداع مثل البصمة: لا تتكرر. فإذا تشابهت بصمتي مع غيري، ضاع تفردي، وضاع معنى الكتابة والإنتاج.

أكتب هذه القصة اليوم لأني أؤمن أن ما قاله شقيقي (وجيه أبوذكري) لا يخصني وحدي، بل هو درس لأي مبدع شاب، سواء كان كاتبًا أو مخرجًا أو صحفيًا أو حتى رائد أعمال:

  • لا تجعل صوتك نسخة من الآخرين.
  • اجعل تجاربك هي منبع إبداعك.
  • تعلّم من كل ما حولك، لكن لا تذُب في غيرك.
  • اعرف أن الأصالة هي رأس المال الحقيقي لأي مبدع.

وهكذا، تحوّل رفض وجيه أن يقرأ مسلسلي كاملًا، إلى أجمل ما قرأته في حياتي: درس لم يُكتب على الورق، بل كُتب في داخلي، وبقي حيًا ما حييت.

وهنا يجب أن نؤكد أن ما قاله (وجيه أبوذكري)، وما تمسّك به، ينطبق فقط على النصوص في طور الإعداد، أي تلك التي لم تُنشر ولم تُعرض بعد.. فهي ما زالت في حوزة صاحبها، سرًا من أسراره الإبداعية. وما دام النص لم يُعرض للعامة، فهو ملك لصاحبه وحده، وأي تداول له بين كتّاب آخرين قد يفتح باب الشبهات، ومسائل الاقتباس أو توارد الأفكار.

أما النصوص المنشورة أو الأعمال التي عُرضت وأُذيعت، فهي قد خرجت إلى فضاء الثقافة العامة، وصارت جزءًا من وعي الناس وذاكرتهم.. قراءتها أو تحليلها لم تعد تهدد أصالة أي كاتب، لأنها لم تعد سرًا محفوظًا، بل أصبحت من (عموميات الثقافة).

هذا رأي قد نتفق عليه أو نختلف معه، لكنه في النهاية يمثل حكمة حريصة على صون الإبداع من الالتباس، ورغبة في حماية الكاتب من أي شبهة قد تعصف بصدقيته.

إبراهيم أبوذكري يكتب: حكايتي مع الإعلام وصناع الإعلام (23).. شقيقي (وجيه أبوذكري)
العدل ليس كلمة عابرة، بل هو قيمة جوهرية، ومفتاح كل نزاهة

زاوية العدل

ولو أخذنا الموضوع من زاوية أخرى، أوسع من الأدب والفن، فهي زاوية العدل.

فالعدل ليس كلمة عابرة، بل هو قيمة جوهرية، ومفتاح كل نزاهة.. إن القاضي حين يجلس على منصة القضاء، يأخذ صفة من صفات الله، وهي العدل.

ومن أبسط قواعد العدل أن يكون القاضي ـ أو كل من أُسند إليه أمر الفصل بين خصوم ـ نزيهًا، محايدًا، بعيدًا عن الشبهات.. فإذا عرف أحد أطراف القضية عن قرب، وجب عليه التنحي، حتى لا يُقال إنه حكم له أو عليه متأثرًا بمعرفته الشخصية.

والحقيقة أن (القاضي) ليس فقط من جلس على منصة القضاء، بل كل من وُكّل إليه الفصل في موضوع أو إصدار رأي مؤثر في حياة الآخرين. وكل رأي يمكن أن يغير مصير فرد أو جماعة، إيجابًا أو سلبًا، يقتضي من صاحبه النزاهة الكاملة، والابتعاد عن كل ما قد يشوش حياده.

وهنا يظهر التشابه العميق: ما فعله (وجيه أبوذكري) لم يكن مجرد موقف شخصي من نص، بل هو تطبيق لفلسفة العدل في أرقى صورها. لقد تحرّز، وابتعد عن مواطن الشبهة، واختار النزاهة على حساب العاطفة.

بهذا تصبح القصة أكثر من ذكرى بين أخوين، إنها درس في الإبداع والعدل معًا:

  • الإبداع يحتاج إلى نقاء وصوت مستقل.
  • والعدل يحتاج إلى نزاهة وابتعاد عن أي موطن شبهة

لقد علّمني شقيقي (وجيه أبوذكري)، من موقف بسيط ظاهريًا، أن القيم العظيمة واحدة، وإن اختلفت مجالاتها.

فالكاتب الحق يشبه القاضي الحق: كلاهما مطالب بالنزاهة، وكلاهما مسؤول عن نقاء ما يقدمه للناس.

الكاتب لا يقتبس بلا وعي حتى لا يفقد أصالته، والقاضي لا يحكم في قضية يعرف أطرافها حتى لا يفقد حياده. الأول يحمي العدل الفني والثاني يحمي العدل الإنساني، وكلاهما يلتقيان عند جذر واحد: الأمانة.

ومن هنا أدركت أن الإبداع ليس ترفًا، بل هو مسؤولية، تمامًا كما أن العدل ليس مجرد وظيفة، بل هو جوهر الإنسانية. وما بين قلم الكاتب وميزان القاضي، تقف الحقيقة دومًا في حاجة إلى رجال يحمونها من الشبهات، ويصونونها من الذوبان في أهواء البشر.

وهكذا، كان رفض وجيه أن يقرأ نصي درسًا مضاعفًا:

  • درسًا في الأصالة الفنية.
  • ودرسًا في النزاهة الإنسانية.

ومن يومها آمنت أن الكاتب، مثل القاضي، لا يملك إلا أن يكون عادلًا.. حتى مع نفسه.

إبراهيم أبوذكري يكتب: حكايتي مع الإعلام وصناع الإعلام (23).. شقيقي (وجيه أبوذكري)
عبد الرحمن حافظ

من التجربة إلى الممارسة العملية

ومن هنا، ومن الدرس الذي علّمني إياه شقيقي (وجيه أبوذكري) – رحمه الله، انتقلت التجربة من دائرة الفكر إلى ساحة الممارسة.. فقد جمعني العمل بالمهندس عبد الرحمن حافظ، الذي كان له دور بارز في تنظيم وتطوير المشهد الفني والدرامي في مصر.

كان يؤمن بأن جودة النصوص هي حجر الأساس لأي نهضة فنية، وأن التقييم يجب أن يكون موضوعيًا وعادلًا. ولهذا شكّل لجنة من كبار المؤلفين لمراجعة النصوص المقدمة.

ولأنني خبرت من تجربة وجيه قيمة الحياد والشفافية، رأيت أن الأمر يحتاج إلى رؤية أخرى.. فاقترحت على المهندس (عبد الرحمن حافظ) أن تُستبدل لجنة المؤلفين بـ لجنة من المنتجين، لا ينتمون إلى أقلام، بل ينتمون إلى خبرة السوق وتجربة المشاهد.. المنتج، بحكم عمله، لا يملك ترف الانحياز؛ لأنه يحكم من منطلق مزدوج: الفن من جهة، ومتطلبات الجمهور والسوق من جهة أخرى.

هكذا وُلدت لجنة المنتجين، التي كان عملها يتم في هدوء، من دون أن يعلم أصحاب النصوص ولا المؤلفون بتفاصيلها، حتى لا تُجرح مشاعرهم بتجميد لجانهم السابقة.. لقد كان الهدف هو خدمة الدراما، لا الدخول في صدامات.

تكوّنت اللجنة من مجموعة من المنتجين الذين لهم خبرة طويلة في السوق، وكان من بينهم:

إبراهيم أبوذكري (كاتب هذه السطور)

وجدي الحكيم

مطيع زايد

صفوت غطاس

عادل حسني

سميحة ايوب

  • وعدد آخر من جمعية منتجي الإذاعة والتليفزيون التي كان يترأسها المهندس (عبد الرحمن حافظ).

وقد كانت هذه اللجنة غير مرئية ، كما أنها كانت لجنة استشارية ذات تأثير ملموس في مدينة الإنتاج الإعلامي.. فلأن أعضاءها يعرفون نبض السوق، ويفهمون جيدًا معادلة “الجودة + القدرة على الوصول إلى الجمهور، فقد استطاعوا أن يميزوا الأعمال التي تستحق العرض من تلك التي تفتقر إلى الأصالة أو الجودة.

إبراهيم أبوذكري يكتب: حكايتي مع الإعلام وصناع الإعلام (23).. شقيقي (وجيه أبوذكري)
وجود لجنة من المنتجين لم يكن مجرد إجراء إداري، بل كان خطوة استراتيجية

قيمة اللجان الاستشارية

إن وجود لجنة من المنتجين لم يكن مجرد إجراء إداري، بل كان خطوة استراتيجية.. ففي عصر تتزايد فيه التنافسية، كان لا بد للأعمال الدرامية أن تحمل رسالة قوية ومؤثرة، وأن تخاطب وجدان المشاهد العربي بصدق. ولأن المنتجين يخوضون هذه المعركة يوميًا في السوق، فهم أقدر على تقديم تقييم واقعي، مدعوم بالخبرة والتجربة.

لقد وفرت هذه اللجنة رؤى ثرية، ونصائح قيّمة، لم تقتصر على الرفض أو القبول، بل امتدت لتشمل توجيهات تطوير النصوص، وتقديم ملاحظات عملية ترفع من مستوى الإبداع.

وهكذا، أثبتت التجربة أن المنتجين لا يدعمون الصناعة فقط بالمال، بل أيضًا بالعقل والخبرة والرؤية. لقد كانوا شركاء في صياغة معايير الجودة، وحُراسًا على أصالة الدراما المصرية والعربية.

الربط بين المبدأ والتجربة

ما بين موقف (وجيه أبوذكري) الفردي، ولجنة المنتجين المؤسسية، ظل الخيط واحدًا:

  • الأمانة في التعامل مع النصوص.
  • العدل في تقييم الإبداع.
  • المسؤولية في صون الصناعة من التكرار أو الضعف.

وبذلك يتحول الدرس الشخصي إلى تجربة عملية أثمرت نتائج ملموسة في المشهد الدرامي، وأكدت أن الإبداع يحتاج دومًا إلى من يحميه، بالنزاهة حينًا، وبالرؤية حينًا آخر، وبكليهما معًا دائمًا.

* رئيس اتحاد المنتجين العرب

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.