رئيس مجلس الادارة : محمد حبوشة
رئيس التحرير : أحمد السماحي

عامر فؤاد عامر يكتب: أعطونا الطفولة.. بين يد طفلة في نيويورك وصرخة (ريمي بندلي)

عامر فؤاد عامر يكتب: أعطونا الطفولة.. بين يد طفلة في نيويورك وصرخة (ريمي بندلي)
حركة يدّ طفلة تتحوّل فجأة إلى أيقونة رمزيّة كـ (ريمي بندلي) تجرّ خلفها تاريخاً من الألم والدم

بقلم الكاتب السوري: عامر فؤاد عامر

في عالم تتزاحم فيه صور العنف وتتناسل فيه الذاكرة الدامية، يطلّ الأطفال دوماً كأكثر الضحايا براءة وأشدّهم عجزاً عن الدفاع عن أنفسهم مثل (ريمي بندلي)، لكن الأخطر من كونهم ضحايا، هو حين يُستَخدمون كأدوات في صراعات الكبار، ليصبح جسدهم الصغير وحركاتهم البريئة مرآة مشوّهة لعنف لم يعرفوه، ورسائل لم يختاروها.. بل فرضت عليهم في قلب معركة ظالمة.

مؤخراً، في إحدى المظاهرات التي نظمها بعض أبناء الطائفة السنيّة ضدّ مظاهرة لأبناء الطائفة الدرزيّة في نيويورك الأمريكيّة، لفت الأنظار مشهد طفلة صغيرة ترفع يدها بحركة أشبه بالمقص.

للوهلة الأولى قد يبدو الأمر مجرّد عفويّة طفوليّة، لكن هذه الحركة تستحضر في الذاكرة الجمعيّة صورة أخرى أكثر إيلاماً: أداة القتل التي استعملها متطرفو (الأمن العام) في حرب إبادة دروز السويداء.. حركة يدّ طفلة تتحوّل فجأة إلى أيقونة رمزيّة كـ (ريمي بندلي) تجرّ خلفها تاريخاً من الألم والدم.

هذا المشهد يفتح الباب واسعاً لمقارنة مؤلمة مع صور أخرى شهدها العالم، (أطفال إسرائيليون يكتبون ويرسمون على صواريخ موجهة إلى الجنوب اللبناني)، الألوان التي يفترض أن تكون لغة حياة ولعب، تحوّلت هناك إلى لغة موت.

الصاروخ الذي يفترض أن يكون رمزاً للدمار، أُلصق بوجهه قناع البراءة، حين تحوّل إلى لوحة أطفال.. الفرق الوحيد أنّ الطفلة في نيويورك لم تدرك أن حركتها تذكّر بالمجزرة، والأطفال الإسرائيليون لم يعرفوا أن الصواريخ التي وقّعوا عليها ستقتل أطفالاً يشبهونهم في الجانب الآخر من الحدود.. لكن في الحالتين، الكبار كانوا يعرفون جيّداً ما يفعلون.

من السويداء إلى نيويورك، ومن لبنان إلى إسرائيل، تتكرر الصورة نفسها: الكبار يصرّون على أن يجعلوا من الطفولة مسرحاً رمزيّاً لعنفهم. يسرقون من الأطفال لعبهم ولغتهم وأحلامهم، ثمّ يعيدون توظيفها في مشاهد دعائيّة يرسلون من خلالها رسائلهم السوداء.. الأطفال هنا ليسوا طرفاً واعياً، بل مجرّد أداة إضافيّة في آلة الكراهية.

عامر فؤاد عامر يكتب: أعطونا الطفولة.. بين يد طفلة في نيويورك وصرخة (ريمي بندلي)
الطفلة التي غنّت للعالم كلّه (أعطونا الطفولة)، لم تُجبر (ريمي بندلي) على تمثيل عنف الكبار

أغنية (ريمي بندلي)

لكن الصورة ليست دائماً كذلك.. في لبنان أيضاً، قبل عقود، عرف العالم وجهًا آخر للطفولة: (ريمي بندلي)، الطفلة التي غنّت للعالم كلّه (أعطونا الطفولة)، لم تُجبر (ريمي بندلي) على تمثيل عنف الكبار، ولم تُستخدم حركاتها كرمز لصراع دموي، بل كان صوتها صرخة بريئة لإنقاذ الطفولة من براثن الحرب.

كانت أغنية (ريمي بندلي) جسراً بين الأطفال والإنسانيّة، لا بين الأطفال والقتل.. وربّما لهذا بقيت تلك الأغنية حيّة حتّى اليوم، لأنّها تذكّرنا بأن الطفولة يمكن أن تكون صوتاً للسلام لا أداة للكراهية.

إنّ المقارنة بين يدّ الطفلة في نيويورك، ورسومات الأطفال الإسرائيليين على الصواريخ، وصرخة (ريمي بندلي)، ليست مقارنة بين صور منفصلة بقدر ما هي مواجهة بين اتجاهين متناقضين: اتجاه يصادر الطفولة ويحوّلها إلى وقود دعائي لصراعاته، واتجاه يمنح الطفولة حقّها الطبيعي بأن تكون صوتاً للحياة.

المأساة الحقيقيّة ليست فقط في المجازر التي تحدث، بل في أن صورة الطفل تُختَطف من براءتها لتُوظف كرمز سياسي أو أداة دعائيّة.. حين يرفع طفل يده بحركة المقص، أو يخطّ طفل آخر اسمه على صاروخ، لا يكون الطفل قد اختار ذلك، بل يكون ضحيّة إضافيّة لخيارات الكبار.. والنتيجة أن الطفولة تُسلب مرّتين: مرّة حين تُحرم من اللعب والضحك، ومرّة حين تُزجّ في لعبة الكبار القذرة.

وسط هذا المشهد القاتم، تبقى أغنية (ريمي بندلي) بمثابة ضوء صغير في العتمة.. تقول كلماتها: (أعطونا الطفولة، أعطونا السلام)، وكأنّها لا تزال تذكّرنا بأنّ الأطفال لا يحتاجون سوى لأبسط الحقوق، أن يُتركوا لحياتهم، لألعابهم، لأحلامهم. فما الذي يمنع الكبار من الاستماع إلى تلك الصرخة التي أطلقتها طفلة لبنانيّة قبل عقود، وما زالت صالحة اليوم وأكثر من أيّ وقت مضى.

لقد آن الأوان أن نعيد الاعتبار للطفولة، أن نحررها من مصادرة الكبار، وأن نحميها من أن تكون واجهة لأحقادهم. فالأطفال ليسوا أدوات، ولا شعارات، ولا أيقونات دعائيّة. الأطفال ببساطة هم مستقبل الحياة، وإذا استمر الكبار في سرقة طفولتهم، فإنهم يسرقون الغد أيضاً.

أعطونا الطفولة… قبل أن نصحو على جيل لا يعرف من العالم سوى رموز العنف وحركات الكراهيّة، تلك التي يرسخها الكيان الصهيوني في كل يوم وليلة دون وازع من ضمير.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.