

بقلم الكاتب الصحفي: محمد حبوشة
لربما لا يوجد أحد في هذا العالم لم يشاهد مجموعة أجزاء فيلم (سو) المرعب إلا قلة لا تستهويهم هذه الأفلام ولا يستطيعون مشاهدتها.. لكن ما يحدث في غزة حاليا يفوق ما يحدث في تلك الأفلام من دروب الرعب على قدر دمويتها على مستوى الواقع المعاش من جانب شعب أعزل لا يطلب سوى العيش بسلام على ترابه المقدس.
استوحيت قصة الفيلم الشهير (سو) أو (المنشار) من قصة أحد المجرمين المكسيكيين والذي يحمل اسم (ديفيد بركر راي)، والذي كان يملك غرفة للتعذيب الذي ينتهي بالموت جهزها بمبلغ يقارب الـ 100 ألف دولار.
وكانت هذه الغرفة مجهزة بسلاسل وقيود عدة إضافة إلى السكاكين والمناشير الحادة، وكان الهدف منها تعذيب النساء والاعتداء عليهن جنسياً.. ثم تلذذ بركر (راي) – تماما كما تفعل إسرائيل – بالتعذيب فأصبح يستأجر الرجال أيضا بمساعدة بعض الشركاء إلا أن معظم ضحاياه كانوا من النساء.
وكان يقوم بتعذيب الضحية بشتى الوسائل الممكنة، كما كان يطلب من ضحاياه أموراً شبه مستحيلة في سبيل البقاء على قيد الحياة عبر شاشة موجودة في غرفة التعذيب، من باب التعذيب النفسي الذي لن يجدي طبعاً، حيث إن الضحية ستقتل في نهاية الأمر، وهو ما يقابل أفعال الصهاينة في حرب إبادتها الحالية في (غزة).
وترجع الاضطرابات النفسية التي كان يعيشها (باركر راي) إلى صغره حيث عانى من اعتداء جنسي جعله يفكر بالانتقام من معظم الناس ويتلذذ بتعذيبهم، عدا عن أنه كان مصدر سخرية لزملائه في المدرسة لعدم قدرته على التعامل مع الجنس الآخر بشكل طبيعي.. ترى هل هناك جانبا من هذا في عقل الآلة العسكرية الصهيونية.. أغلب الظن أن شيئا من هذا القبيل يرسخ في رأس قادة إسرائيل.

أوجه الشبه مع أفلام (سو)
وأرى أن أوجه الشبه بين أفلام (سو) والواقع الفلسطيني على الأرض يأتي على النحو التالي: مواطني غزة يعانون يوميا من الألعاب القسرية، فالضحايا يجبرون على المشاركة في ألعاب لا يملكون فيها خيارًا حقيقيًا، وهذا يولد الشعور باليأس والعجز، حيث الضحايا غالبا ما يجدون أنفسهم في مواقف لا يمكنهم السيطرة عليها.
ليس هنالك سوى الاختيار بين السيئ والأسوأ، فالخيارات المتاحة غالبا ما تكون مؤلمة أو مميتة، مايعني فقدان الإنسانية، فغالبا ما تحول الألعاب الضحايا إلى مجرد قطع في لعبة، مما يجردهم من إنسانيتهم.
وجراء ذلك يعاني سكان غزة من الخضوع واللامبالاة: الضحايا غالبا ما يستسلمون لمصيرهم أو يجدون أنفسهم في حالة من الصدمة، وهنا تبدو الرسالة الأخلاقية (المتضاربة): حيث يبرر القاتل أفعاله بأنها اختبار لإرادة الحياة لدى الضحايا.
العناصر الرئيسية في الواقع الفلسطيني: الحصار والقيود، فالقيود المفروضة على حركة الأفراد والسلع، غالبا ما يضع السكان في حالة من الحصار المستمر، فضلا عن الوجود المستمر للعنف والخطر، لأن العيش في (غزة) تحت تهديد العنف المستمر، سواء كان مباشرًا أو غير مباشر.
هذا بدوره يؤدي إلى فقدان السيطرة، والشعور باليأس والعجز أمام قوة أكبر وأكثر تسلحا، ولهذا تبدو الخيارات الصعبة التي تضطر سكان غزة إلى اتخاذ قرارات صعبة ومؤلمة للبقاء على قيد الحياة أو للحفاظ على كرامة الفرد.
ومن ثم يترتب على ذلك الآثار النفسية، حيث الآثار النفسية طويلة الأمد للعنف والخوف المستمر، وليس سبيل لمقاومة اليأس، على الرغم من كل التحديات، هناك دائمًا مقاومة وصمود في وجه الظروف القاسية.
في أفلام (سو) يجبر الضحايا على المشاركة في ألعاب لم يختاروها، ليس لديهم خيار سوى اللعب، إما بقبول الأذى الجسدي أو بالموت، هذا التشابه الصارخ يتجلى في الحياة اليومية للفلسطينيين.. فالحياة في ظل الاحتلال أصبحت (لعبة قسرية) لا يختارها أحد.. القيود المفروضة على الحركة، والحصار، والتفتيش عند الحواجز، وتدمير المنازل، كلها (قواعد) تُفرض عليهم دون موافقة.
تماما مثل ضحايا (جيغسو) الذين يسلبون حريتهم، يسلب الفلسطينيون حقهم في الحياة الطبيعية.. قد يبدو أن هناك (خياراً) مثل الصمت والاستسلام، أو مقاومة الاحتلال، لكن كلا الخيارين يأتي بثمن باهظ.. هذا ليس خيارًا حقيقيًا بين الخير والشر، بل بين السيئ والأسوأ، تماماً كما تُجبر شخصية في فيلم (سو) على قطع قدمها للهروب من فخ مميت.


بين الضحية والجلاد
السمة المميزة لأفلام (سو) هي أنها تزيل الخطوط الفاصلة بين الضحية والجلاد (جيغسو) الذي لا يرى نفسه كقاتل، بل كمصلح أخلاقي يمنح ضحاياه فرصة لتثمين حياتهم، هذه الفلسفة الملتوية تبرر العنف تحت ستار (التصحيح)، وهو مايشبه أفكار (ترامب ونيتنياهو) في جعل غزة (أرض الأحلام) في المنطقة، وهى هنا يطلق (المنطقة الرمادية).
في السياق الفلسطيني، يمكن رؤية هذه (المنطقة الرمادية) في خطاب الاحتلال الذي يبرر أفعاله بذريعة (الأمن) و(مكافحة الإرهاب).. يصوَر الفلسطينيون على أنهم (تهديد)، أو (إرهابيون)، مما يبرر قمعهم وتجريدهم من حقوقهم الإنسانية.
يصبح الضحية في هذه الرواية المتضاربة هو المسؤول عن معاناته، تماما كما يلوم (جيغسو) ضحاياه على سوء تقديرهم للحياة.. تشبه (ألعاب) الاحتلال هذه، حيث يُجبر الفلسطينيون على دفع ثمن باهظ، ليس فقط ماديا، بل على المستوى الإنساني، بفقدان الأمل والشعور باليأس.
على الرغم من كل التشاؤم، تحمل سلسلة (سو) رسالة متناقضة: إرادة الحياة.. الضحايا الذين ينجحون في الهروب من فخاخ (جيغسو)، هم أولئك الذين يتمسكون بإرادتهم للبقاء على قيد الحياة، حتى في وجه الألم والخوف.. هذا الصمود هو ما يفصلهم عن اليأس.
وهنا يكمن التشابه الأكثر عمقا مع الواقع الفلسطيني.. ففي مواجهة الألعاب القسرية والخيارات المستحيلة، يظل الفلسطينيون يتمسكون بأرضهم وهويتهم.. الصمود في وجه الترحيل، والحفاظ على التراث الثقافي، والتعليم، والفن، وحتى مجرد العيش تحت القصف، كلها أشكال من (إرادة الحياة) التي يرفضون من خلالها الاستسلام.
إن مقاومة اليأس هى أقوى رسالة يمكن استخلاصها من هذه المقارنة.. تماماً كما يرفض بعض ضحايا (جيغسو) في (سو) الانكسار، يرفض الفلسطينيون أن يُجردوا من إنسانيتهم أو أن يرضخوا لمصير فرضه عليهم الاحتلال.
إنهم يجدون طرقا للبقاء على قيد الحياة، ليس فقط جسديا، بل أيضا روحيا ومعنويا، وهذا هو الانتصار الحقيقي في (لعبة) البقاء.
في نهاية المطاف، أفلام (سو) هى مجرد حكاية مرعبة تنتهي بظهور شاشة سوداء، لكن الواقع الفلسطيني هو (لعبة) تستمر فصولها يوميًا، وتكتب فيها قصص الألم والصمود.. إن التشابهات الرمزية بين السلسلة والواقع لا تهدف إلى المبالغة أو التهوين، بل إلى تسليط الضوء على الأبعاد الإنسانية والنفسية للصراع.
إنها تذكير بأن الخيارات الصعبة والآلام التي تفرض على الأفراد يمكن أن تحول حياتهم إلى ما يشبه (لعبة) مرعبة، ولكنها في الوقت نفسه تكشف عن قوة إرادة الإنسان التي ترفض الانكسار، وتتمسك بالأمل حتى في أحلك الظروف.
سلسلة أفلام رعب نفسية
لطالما اعتبر الفن مرآة الشعوب، إذ يعكس الحياة اليومية على شكل أعمال درامية وسينمائية، ولا سيما الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي الذي حظي باهتمام السينما العربية والعالمية وانعكس في الأفلام المنتجة وفي طريقة سردها وعرضها ومعالجتها، ولكن على عكس (سو) القبيحة في شكلها ومضمونها على مستوى الرعب الرهيب الذي تحدثه الآلة العسكرية الإسرائيلية.
للتذكير: سلسلة أفلام (سو) هي سلسلة أفلام رعب نفسية تتمحور حول شخصية (جيجسو) القاتل الذي يضع ضحاياه في مواقف مميتة ليختبر رغبتهم في الحياة، مما يؤدي إلى (ألعاب) مروعة ومليئة بالعنف الجسدي والنفسي.. تعتمد السلسلة على التشويق والألعاب الدموية، وتستكشف دوافع (جيجسو) وتأثيره بعد وفاته على المتدربين في الأفلام اللاحقة.
بدأت سلسلة (سو) في عام 2004 من إخراج (جيمس وان)، وتتكون السلسلة من عدة أفلام تمتد حتى (سو 10 – Saw X) في عام 2023، وتتبع تطور قصة (جيجسو) وتأثيره على الآخرين.
يقوم (جيجسو) بخلق مواقف خطرة تضطر الضحايا للتعرض للتعذيب الجسدي أو النفسي لإجبارهم على النجاة، حيث يرى في ذلك طريقة لإعادة تأهيلهم.
تعرف أفلام (سو) بالألعاب المروعة والتحديات القاتلة التي تضع الضحايا في مواقف لا يمكنهم النجاة منها إلا بالتضحية بأنفسهم أو الآخرين، وتتميز السلسلة بالتشويق العالي والرعب النفسي الذي يدفع المشاهد إلى التفكير في مدى أهمية الحياة والرغبة في النجاة.