رئيس مجلس الادارة : محمد حبوشة
رئيس التحرير : أحمد السماحي

محمد الروبي يكتب: (عطيل.. وبعد) لـ (حمادي الوهايبي)

محمد الروبي يكتب: (عطيل.. وبعد) لـ (حمادي الوهايبي)
تأكدت لي الملامح الأساسية لأسلوبه: الممثل، الممثل، الممثل،
محمد الروبي يكتب: (عطيل.. وبعد) لـ (حمادي الوهايبي)
محمد الروبي

بقلم الكاتب والناقد: محمد الروبي

كان (الصابرات) هو العرض الأول الذي تعرفت من خلاله على المخرج التونسي (حمادي الوهايبي).. كان ذلك عام 2015 ضمن فعاليات مهرجان شرم الشيخ الدولي للمسرح الشبابي.

حينها أيقنت أنني أمام مخرج يعي أهمية الممثل ودوره، فلا كتل ديكورية ضخمة، ولا اختباء خلف أقنعة ملوّنة، أو مناظر وإضاءة وحركات استعراضية براقة. فقط الممثل هو وحده من يحمل عبء الرؤية، لا بخضوعه لتدريبات شاقة فحسب ـ وهو ما يكشفه العرض ـ بل عبر مشاركة حقيقية في تطوير النص، الذي ربما بدأ بفكرة عامة ثم أخذ في النمو عبر نقاشات جماعية مع الفريق.

بعدها تتبعت أعمال (حمادي الوهايبي) التالية (جويف والروبة)، فتأكدت لي الملامح الأساسية لأسلوبه: الممثل، الممثل، الممثل، حاملاً صليب الرؤية الباحثة في أسباب ما نحياه، وإعادة سرده عبر بناء يتشكل أمامنا فنندهش: كيف كنا نثق أن الرواية السائدة هي الأصح؟

محمد الروبي يكتب: (عطيل.. وبعد) لـ (حمادي الوهايبي)
في عمله الأخير، (حمادي الوهايبي) يصوغ خطابًا يبدأه بالعنوان (عطيل… وبعد)

عطيل كما لم نعرفه

وها هو، في عمله الأخير، (حمادي الوهايبي) يصوغ خطابًا يبدأه بالعنوان (عطيل… وبعد)، يقرأه علينا مجموعة من الممثلين القادرين، لتتشكل أمامنا حقائق جديدة، متخذًا من رائعة شكسبير تكئة لتعرية الواقع العربي والعالمي.

 في العرض سترى غزة رغم أنك لن تسمع اسمها. بل سترى كل مدننا في ثوب جديد وعبر رواية مخالفة.

فكما يحدث اليوم في الغرب، حيث بدأت الشعوب تدرك الحقائق، وحيث سقطت وتتساقط الأقنعة، وحيث لم تعد رواية الهولوكوست تصيب الخائفين برعب الذنب، يعود (حمادي الوهايبي) إلى رائعة شكسبير، لا ليقدّمها كما هي، بل ليناقشها ويعيد قراءتها.

في مقاربته، يعيد (حمادي الوهايبي) ترتيب الأحداث، عبر نص كتبه بوكثير دومة، ويعرّي الشخصيات، كاشفًا عن الأسباب العميقة وراء كراهية عطيل والنقمة عليه. يبدأ العرض من لحظة القتل: عطيل يواجه زوجته بتهمة الخيانة، لا ينصت إلى دفاعها، يمدّ يديه ليخنقها.

وهنا يتوقف الزمن. تظهر الأم فجأة، تصرخ فيه أن يتمهّل، وتدعوه لاستعادة ما جرى، ليفكك الخدعة التي وقع فيها، ويطارد من كان وراءها.

محمد الروبي يكتب: (عطيل.. وبعد) لـ (حمادي الوهايبي)
لا يكتفي الوهايبي بإعادة تأويل نص شكسبير، بل يحوّله إلى مرآة لأسئلة الحاضر

العودة إلى أصل الحكاية

في دلالة ذات مغزى، تدخل الأم من الصالة برداء سماوي كاشف عن انتمائها لعالم آخر، تحمل عصاها وتدق بها دقات تحذيرية توقفه عن فعل سيلقي به إلى جحيم الجهل. يرافقها عازف جيتار، وكأنه ملاك حارس يغني ما يفهمه عطيل من ألحان تعيده إلى أصوله.

وكأن الأم والمغني أداتان تحذيريتان تدفعاننا إلى قلب رؤية النص ومن ثم العرض؛ تلك الرؤية التي تدعونا، كما تدعو عطيل، إلى أن: (تمهلوا.. فليست الأمور كما تبدو لكم).

بهذا الاختيار، لا يكتفي الوهايبي بإعادة تأويل نص شكسبير، بل يحوّله إلى مرآة لأسئلة الحاضر: كيف تتكوّن الأكاذيب الكبرى؟ وكيف تتحول إلى أدوات للشيطنة والإقصاء؟ فـ”عطيل” هنا ليس مجرد غريب أسود البشرة في مجتمع أبيض، بل رمز للمستهدف الذي يُصنع حوله خطاب الكراهية حتى ينعزل ويُقصى.

والأم التي تتدخل في اللحظة الفاصلة ليست شخصية درامية فحسب، بل ضميرًا يحث على التروي وإعادة النظر قبل الانجراف إلى الفعل القاتل. وكذلك ياجو وكاسيو ورودريجو وديدمونة وإميليا؛ فكل منهم يحمل وجهًا عصريًا، سواء بملابسه الدالة ـ كالأسود والأبيض عند (ياجو وكاسيو) المتصارعين على حكم العالم، والأزرق الغائم عند عطيل بتصميم يربطه بأصوله العربية والإفريقية.

والوردي الناعم لديدمونة الكاشف عن روح طاهرة بريئة ألقيت في أتون صراع لا تفهمه، والأزرق الكاشف لأنوثة متخفية خلف رداء الراهبات عند إميليا ـ أو بحركة مسرحية حادة يتقاطع فيها المستقيم مع المثلث، خاصة في المواجهات الثنائية أو الجماعية.

وهكذا يتحول العرض إلى مواجهة مزدوجة: مرة مع الخديعة في النص الأصلي، وأخرى مع الخديعة في الواقع المعاصر، حيث يُستبدل السرد التاريخي المهيمن بتأويل جديد يحرّض على إعادة النظر والتفكير النقدي.

محمد الروبي يكتب: (عطيل.. وبعد) لـ (حمادي الوهايبي)
يرسّخ مشروعه المسرحي الخاص، الذي لا يقف عند حدود حكي الحواديت

الممثل الممثل الممثل

على المستوى التشكيلي، يواصل (حمادي الوهايبي وفاءه لأسلوبه الذي عُرف به في أعماله السابقة، حيث يترك الخشبة عارية تقريبًا، إلا من موتيفة واحدة تحمل دلالة مفتوحة؛ في هذا العرض كان السلم الحديدي في أقصى يمين الخشبة، بوصفه ممرًّا محتملًا للصعود أو الهروب أو الانحدار، وفق حركة الممثلين وتطور الحدث.

وإلى جانبه، وظّف شاشة خلفية للإشارة إلى تغيّر المكان أو الإيحاء بامتداد الفضاء خارج الخشبة، بما يتيح الانتقال بين الأزمنة والأماكن دون كسر إيقاع المشهد.

هذا التقشف في العناصر التشكيلية يضاعف من حضور الجسد والصوت والنص، ويجعل المتفرج شريكًا في بناء المعنى، بدل أن يكون متلقيًا سلبيًا للصور الجاهزة.

(عطيل.. وبعد) هو دعوة صريحة لإعادة النظر في كلاسيكيات المسرح، لا بوصفها نصوصًا مقدسة، بل باعتبارها فضاءات حية قابلة للحوار والمساءلة.

(حمادي الوهايبي) لا يكتفي بكسر تراتبية الحكاية، بل يضع الجمهور أمام مسؤولية التفكير في ما وراء النص: في خطاب السلطة، وفي صناعة الكراهية، وفي هشاشة الحقائق حين تتوارى خلف الأوهام.

بهذا، لا يظل (عطيل.. وبعد)، مجرد إعادة قراءة لنص شكسبير، بل يصبح موقفًا فكريًا وأخلاقيًا من زمننا الراهن، حيث تتكشف الأكاذيب وتنهار الروايات المهيمنة تحت ضغط الحقائق الميدانية.

ولعل أحداث غزة، بما هي عليه من مأساة وصمود، جاءت لتكون الاختبار الأشد وضوحًا لضمير العالم، كاشفة عن ازدواجية المعايير، ومؤكدة أن الحكايات التي يكتبها الأقوياء لا بد أن تُروى من جديد، بعين الشاهد لا بعين الجلاد.

أخيرًا، ودون الوقوع في فخ إعادة حكي رواية العرض، أقول إن (حمادي الوهايبي)، بعرضه هذا، يرسّخ مشروعه المسرحي الخاص، الذي لا يقف عند حدود حكي الحواديت، بل يتجاوزها إلى تحطيم المفاهيم عبر مشهدية ممتعة، عنوانها، ومرة أخرى: الممثل، الممثل، الممثل.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.