
بقلم الكاتب الصحفي: أحمد الغريب
فى خطوة مفاجئة للجميع حقق فيلم (صوت هند رجب) – (The Voice Of Hind Rajab) نجاحًا مبهرًا بعرضه في مهرجان البندقية، حيث حصد جائزة الأسد الفضي، وقد عُرض ضمن جدول المهرجان يوم الأربعاء 3 سبتمبر، بحضور صُنّاعه ونجوم هوليوود، من بينهم (خواكين فينيكس) و(روني مارا)، وكلاهما من نجوم هوليوود الذين دعموا الفيلم، وصفق الجمهور لمدة 24 دقيقة عقب المشاهدة.
هذا الفيلم الذي قادت صناعته المخرجة التونسية (كوثر بن هنية) إيمانًا منها بقوة السينما كفعل يحاول كسر السرديات السائدة حول سكان قطاع غزة، ويكفى ما قالته في هذا الصدد لصحيفة (ذا ناشيونال) عن أسباب اختيارها لقصة فيلم (هند رجب).
صوت هذه الطفلة الصغيرة قد يُسبب انزعاجًا، أفهم ذلك تمامًا، ولهذا السبب أُخرج هذا الفيلم. لا أُخرجه لأُشعر الناس بالراحة، لأن سكان غزة لا يعيشون حياةً هانئة، ووالدة هند في حالة حداد ولا تنعم بحياة بها أي راحة، ولأنه من المهم أن يبقى صوت (هند رجب).. خالدًا.
وبعبارات أكثر وضوحاً تقول (بن هنية): (يُقتل الفلسطينيون وتُروّج رواية أنهم ضحايا جانبيون، وكأنهم مجهولو الهوية، ليس لديهم أسماء، يكاد يكون وجودهم غير موجود. جميع الضحايا متهمون بالإرهاب والانتماء إلى حماس. هذا النوع من الروايات منتشر في كل مكان. لهذا السبب صنعتُ هذا فيلم (هند رجب) هذه الفتاة الصغيرة كان لها أمٌّ وأخٌ صغير، وحياة كاملة. إنهم بشر، ليسوا ضحايا أو مجرد أرقام.
وتضيف: (إنهم يواجهون آلة الاحتلال العبثية.. سيارة الإسعاف لا تستطيع أن تصل إلى طفل يستغيث بسبب الاحتلال. الوضع في غزة مختلف عن أي مكان آخر، لكن الناس لا يدركون الواقع، وهذا ما يحاول الفيلم نقله)، وأشارت إلى أنها متفهمة أن يحدث انقسام حول الفيلم، لكنها مُتحدّية: (هذا واقع غزة.. إنه مسلسل رعب يفوق الخيال).
وعن سبب اختيار طاقم الممثلين من فلسطين، أوضحت: (إنها قصة فلسطينية، ويجب أن يرويها ممثلون فلسطينيون. ما يحدث في غزة يجعلنا جميعًا، إلى حد ما، فلسطينيين).

هند .. رمزا لمأساة الحرب في غزة؟
أعاد فيلم (هند رجب)، القصة المأساوية للطفلة الغزية وعائلتها، التي قتلتها إسرائيل، إلى الواجهة من خلال مهرجان فينيسيا السينمائي، وذلك بعد أكثر من عام ونصف على حدوثها، وكانت إسرائيل تأمل دفن جريمتها إلى الأبد، عندما قتل جيشها المسلح بأعتى تكنولوجيا طفلة السنوات الست بعد تصفية عائلتها، لكن صوت هند واستغاثاتها -عندما ظلت في السيارة وحيدة بعد مقتل من كان معها من أقاربها- تحول إلى صدى تردد في أكثر من ساحة عالمية، حتى وصلت إلى مهرجان فينيسيا السينمائي.
وفي 29 يناير 2024 كانت (هند رجب) برفقة بعض أقاربها في سيارة بمنطقة تل الهوا في قطاع غزة، عندما هاجمتهم دبابات إسرائيلية وبدأت تطلق النيران تجاه السيارة، فقتلت أقارب (هند) الستة الذين كانوا معها، ولم يتبقَّ سوى الطفلة ذات الأعوام الستة، والتي ظهر صوتها للعالم في مكالمة هاتفية مع والدتها وهي تتوسل إليها أن تأتي وتخرجها من السيارة ومن المكان الذي تتواجد فيه.
أخبرت (هند رجب) خلال المكالمة الهاتفية والدتها أن جميع من في السيارة قد قتلوا وأنها الناجية الوحيدة، وعبرت لها عن خوفها، وتوسلت لأمها أن لا تنهي المكالمة قبل أن يصل أحد ما وينقذها، توسلت هند كثيرا لأمها أن تأتي إليها.
وبدورها، حاولت الأم طمأنتها بأن الدفاع المدني سيصل إليها وينقذها ووعدتها بأن لا تنهي المكالمة، وأن تظل معها وطلبت منها الدعاء لله وسؤاله أن يحميها، استمرت المكالمة نحو 70 دقيقة، وبعدها غاب صوت هند، ليتبين لاحقا أن دبابات الاحتلال أسكتت هند وغيّبت صوتها للأبد.

الكشف عن هوية القاتل
في أعقاب الجريمة التي نفذتها قوات الإحتلال الإسرائيلي، تأسست مؤسسة تحمل اسم (هند رجب) في فبراير 2024، وأتخذت من بروكسل مقرا رئيسيا لها، ومنذ ذاك الوقت تنشط في ملاحقة مسؤولين وعسكريين إسرائيليين عبر دعاوى قضائية بأنحاء العالم بتهم تتعلق بارتكاب جرائم حرب ضد الفلسطينيين
ومن ثم كشفت المؤسسة عن هوية القائد العسكري الإسرائيلي المسؤول عن مقتل الطفلة الفلسطينية (هند رجب) وعائلتها بقصف سيارة كانت تقلّهم في 29 يناير 2024، وقالت المؤسسة في بيان على موقعها الإلكتروني، إنه في اليوم الذي كان من المفترض أن تحتفل فيه (هند رجب) بعيد ميلادها السابع، وهو يوم ذكرى حزينة، قدَّمت المؤسسة شكوى بارتكاب جريمة حرب إلى المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي.
لتكشف في هذا السياق عن إنه بعد عام من التحقيق بلا توقف، حددنا هوية الوحدة العسكرية المسؤولة، إضافة إلى القائد الذي قاد العملية التي أودت بحياة هند وعائلتها، والمسعفَين اللذين حاولا إنقاذها، وذكرت المؤسسة في بيانها أن المقدَّم (بني أهارون) (Beni Aharon) قائد اللواء المدرع 401 في الجيش الإسرائيلي وقت الحادث هو المسؤول عن قتل الطفلة هند وعائلتها.
وأوضح البيان تحت قيادة (أهارون)، هاجمت وحدة دبابات إسرائيلية السيارة المدنية لعائلة (هند)، ودمرت في وقت لاحق سيارة الإسعاف التابعة للهلال الأحمر الفلسطيني التي أُرسلت لإنقاذها”.

انتقادات إسرائيلية
بطبيعة الحال لم يمر الفيلم على تل أبيب مرور الكرام، ففى أعقاب النجاح الذى حققه، اهتمت وسائل الإعلام والصحافة الإسرائيلية بتسليط الضوء عليه، إذ ركزت صحيفة (يديعوت أحرنوت) على فوز الفيلم بجائزة (الأسد الفضي)، وهى جائزة لجنة التحكيم الكبرى في مهرجان البندقية السينمائي، وهي ثاني أرفع جائزة في هذا المهرجان.
قائلة إن (هند رجب) أصبحت رمزًا، وأن الفيلم تفوق على أعمال جديدة لمخرجين مرموقين ومحترمين مثل نوح بومباخ، ويورغوس لانثيموس، وكاثرين بيغلو، وغييرمو دي تورو، وغيرهم، وقالت الصحيفة: إن مخرجة الفيلم أهدت الجائزة للهلال الأحمر الفلسطيني وقوات الإنقاذ، وهاجمت إسرائيل بشدة، ودعت إلى إنهاء الحرب.
كما حاولت التقليل من إنجاز الفيلم باعتبار أنه “حتى قبل انطلاق المهرجان، سُلِّط الضوء على فيلم (هند رجب) كمرشح رئيسي، حيث ساهم عدد من النجوم مثل (براد بيت) و(خواكين فينيكس) و(روني مارا) ومخرجي هوليوود مثل (ألفونسو كوارون) و(جوناثان جليزر) للفيلم كمنتجين منفذين.
وزادت على ذلك بالقول: (أن الدورة الأخيرة من مهرجان البندقية السينمائي تُعقد تحت شعار الحرب في غزة، بدءًا من عريضة أطلقها مخرجون من جميع أنحاء العالم يطالبون فيها إدارة المهرجان بزيادة الوعي بالحرب، وصولاً إلى دعوات لإلغاء مشاركة فيلم (بين يدي دانتي) من بطولة الممثلة الإسرائيلية الداعمة لجيش الاحتلال (جال جادوت).
وقالت: (بالطبع – مظاهرة حاشدة نظمتها منظمات مؤيدة للفلسطينيين خلال المهرجان، داعيةً إلى ‘وقف الإبادة الجماعية في غزة’. في غضون ذلك، دُعي عدد من المخرجين في المؤتمرات الصحفية إلى مناقشة قضية غزة، ومسألة مقاطعة الفنانين والأعمال والممثلين الإسرائيليين).

وظفوا قصة (هند رجب)
وذكرت أنه (من المهم الإشارة إلى أن بعض النقاد، بمن فيهم نقاد من دول عربية، اعتبروا الفيلم إشكاليًا ومثيرًا للجدل، بل ووظفوا قصة (هند رجب) بشكل استغلالي وغير أخلاقي، ومع ذلك انطلق العرض الأول الكبير للفيلم.
وما حدث في قصر المهرجان كان على الأرجح حدثًا غير مسبوق في تاريخ ثاني أهم حدث سينمائي عالميًا: مع انتهاء العرض، هتف الجمهور طويلًا، ولوّح بعض الحضور بالكوفيات والأعلام الفلسطينية.. هزّت هتافات (فلسطين حرة) القاعة.
استمر التصفيق لأكثر من عشرين دقيقة، وهو بلا شك رقم قياسي.. وقبل بدء العرض، سار طاقم الفيلم على السجادة الحمراء حاملين صورة (هند رجب)، وخلال التصفيق، لوّحوا بصورتها في القاعة).
ومن ثم أكدت الصحيفة أن (هذا الفوز يُبرز مكانة (هند رجب)، التي أصبحت بمثابة الرد الفلسطيني على آن فرانك) وهي فتاة يهودية ألمانية الأصل تُعد واحدة من أشهر ضحايا “الهولوكوست”، وصاحبة (يوميات آن فرانك) التي أصبحت رمزًا عالميًا لمعاناة المدنيين تحت الاضطهاد النازي.
وختمت بالقول: (رفض القائمون على الفيلم بيع الحقوق لعرضه في إسرائيل أو إجراء مقابلات مع وسائل الإعلام الإسرائيلية، بينما صرحت مخرجته كوثر بن هنية لممثلي وسائل الإعلام الدولية بأنها ستكون سعيدة بعرض الفيلم في إسرائيل، وذلك فقط بعد السماح بعرضه في غزة).
الانتقادات ذاتها جاءت في سياق مراجعة موقع (سيريتا) الإسرائيلي المتخصص في المحتوى السينمائي، أنه (في ظلّ الأجواء الداعمة للفلسطينيين في الأوساط الثقافية، وفي مهرجان البندقية السينمائي عمومًا، يُعدّ الفيلم المقتبس عن قصة حقيقية لفتاة أصبحت أحد رموز الحرب الدائرة، من أكثر الأفلام تداولًا، ويحظى الفيلم بدعم عدد من ممثلي ومخرجي هوليوود الذين شاركوا في توزيعه وحصلوا على شهادات إنتاج).
الثابت إن الفيلم نجح نجاحاً باهراً في توثيق لحظة قتل الطفلة (هند رجب) هذا الصوت الذي جسد معه لحظة مأساوية لا يمكن اختلاقها أو محاكاتها، وهو ما يمنحه قوة الحفاظ على الذاكرة الجماعية، ويكسر حاجز الصمت العالمي المفروض منذ سنوات طويلة على قصص الفلسطينيين لنزع صفتهم الإنسانية، ويحوّل الفيلم ذاته إلى وثيقة لا يمكن إنكار أهميتها في هذه اللحظة الفارقة.. وللحديث بقية..