
بقلم الباحث المسرحي الدكتور: كمال زغلول
بعد تحديد مفاهيم فن (التمثيل) والمسرح في العربية، في المقالات السابقة نتذكر معا قول (عبد القاهر الجرجاني) لبيان أهمية فن التمثيل بأنه (معلوم أن العلم الأول أتى إلى النفس أولا عن طريق الحواس، ثم من وجهة النظر والرؤية.. وإذا نقلتها في الشيء بمثله عن المدرك بالعقل المحض، وبالفكرة إلى القلب، إلى ما يدرك بالحواس أو يعلم بالطبع..
وعلى حد الضرورة، فأنت كمن يتوسل إلى الغريب بالحميم، والجديد الصحبة بالحبيب القديم، فأنت إذاً مع الشاعر وغير الشاعر، إذا وقع المعنى في نفسك غير ممثل، ثم مثله كمن يخبر عن شيء من وراء حجاب ويقول: هذا هو ذا، فأبصره تجده على ما وصفت).
ومن هذا القول نتعرف اليوم على طريقة من طرق فن (التمثيل) العربي وهي طريقة المسرحة التأثيرية، وهى خاصة بفن القص، وهذا الفن يقدم قصص تمثيلية، يؤديها القاص.
وهذا الأداء يعتمد على المشاركة بين القاص ومستمعيه، في تصور المسرح الذي تدور فيه الأحداث، ويقدم القاص صورة سمعية تثير خيال المستمع، لكي يشارك بخياله ويتصور الحدث، والقاص يقدم قصص يمس بها النفس البشرية، ويعمل على إظهار أمراض النفوس.
وهذا ما نجده في قصه اليتيمان ليوسف شتا، فهو يبدأ بتمهيد يمثل فيه النفس البشرية لإظهار معنى من المعاني في نفس المُشاهِد وهذا ما نلاحظه عبر الأمثلة التالية:

الصورة الأولى:
اللي يطاوع نفسه بيطب في الإهمال
يبقي جني على روحه ولا ينفعوش المال
أما اللي فعل الخير وصالح الأعمال
ذريته من بعده حيحققوا الآمال
بالفن وبالأنغام كلام جميل يتقال
وحتسمعوا ألحان في قصة الجمال
ياللي ظلمت اليتيم نار الجحيم تراضيك
من كتر طمعك نسيت ما لقيت جعان تراضيه
وطاوعت نفسك وهي بالحرام تراضيك
في كل دين ربنا وصي على الأيتام
وطه محمد نبينا أكرم الأيتام
ولأجل حكم الكريم جعله من الأيتام
وكل شيء له نهاية لابد له بداية
والسعد أوعاد وفعل الخير له بداية
يا سامعين فننا والدور له بداية
وفي هذه الصورة السمعية، يركز القصاص (الصييت) على طبيعة النفس البشرية، والكيفية التي يجب أن تكون عليها النفس من الطباع الحميدة التي يرتضيها الله، ويماثل هنا بين من يقوم نفسه ويطوعها لصالح الخير، وبين من يترك نفسه تنساق حسب أهوائها.
فالأولى سوف تحصد الخيرات والثانية سوف تحصد الشرور والآثام، وهنا يتعرض الصييت إلى أهم موضوع في حياة الإنسان وهى النفس البشرية ويقوم بعمل تشريح لها، ويعقد مقارنه بين طبيعة الأنفس الخيرة، والأنفس التي بها أمراض، ويعدد تلك الأمراض النفسية ويركز على النفس الطماعة.
وهنا يربط الصييت بين النفس الطامعة وحبها للمال، وبين اليتيم وأكل ماله وهو موضوع القصة التي يقصها يوسف شتا.

الصورة الثانية
وهذا ما نراه في عرض شخصياته في المثال التالي:
ححكي الحكاية واغني قصة الأيتام
أصل الحكاية لراجل كان أصيل معروف
من وجه بحري وصيته كالعلم معروف
وله كرامه ما بين كل العباد معروف
من أدبه وياه كماله الناس يحبوا لقاه
حليم وقت الغضب وله هيبه وقت لقاه
زرع المودة بين أخواله وزرعه لقاه
كان اسمه عبد الإله السعدني معروف
معاه ولدين حسن وحسين يراعيهم
وكان ماعندوش خلاف الأتنين يراعيهم
كانوا عنده غالين بنني العين يراعيهم
عبد الإله صاحبي ولا كنش في يوم عايب
ماتت مراته وعايب يا زمان عايب
وسابت له الاتنين ولو همل يكون عايب
وبعد ست الحبايب كان يراعيهم
حسين وياه حسن من صغرهم همين
أطفال لسه في أحلام الصغر همين
وبتخدع اللي في حبك يا زمن همين
حسن مع حسين كل الناس عزوهم
وبيكرموهم لوجه الله عزوهم
ما فتش شهرين لموت الأم عزوهم
ومات أبوهم وأصبح همهم همين
أهل البلد كلهم عطفوا على الولدين
اكمنهم أصبحوا يتمي من الولدين
وعمهم صعب كان قاسي على الولدين
الدنيا حتضيق عليهم لو تكون واسعة
وهدمة اليتم عالجسم السليم واسعة
الأب سايب لهم تركة ودار واسعة
فدادين تسعة باسمه لا سلف ولا دين
وعمهم الدريني كان وحش طماع
وصوه عليهم وهو مبدأه طماع
فرح بموت اخوه لأنه في تركته طماع
بيميل للشر ويدراي دوام خيره
قضي حياته ما يزرعش في يوم خيره
صحيح غني مال لكن محروم من خيره
في حق غيره تملي تلتقيه طماع
ملك الوصاية عديم التقوي عراهم
وشح بالزاد بعد الجوع عراهم
لأنه جاحد ما يخشي اللوم عراهم
فرحت مرات عمهم بالفعل لولدها
علشان غرضها تخلي التركه لولدها
وجوزها يدي الحنان والحب لولدها
يكسي ولادها لكن ليتام عراهم
والصورة واضحة ودالة على أنها تخص النفوس البشرية، فأخ نفسه خيرة، يتوفَّى ويترك أبناءه إلى أخيه الطماع، والصييت هنا يبث في المُشاهِدين مجموعة من الصورة السمعية التي تحتوي على تلك الحالات النفسية، ومن خلال ذهنه يتخيل تلك الصورة السمعية لـ (التمثيل)، فتثير مشاعره، وتستحوذ على حواسه، إذ أن أهم ما يفعله الصييت هو الاستحواذ على حواس المُشاهِد من خلال حاسة السمع، معتمدا على البنية الداخلية والتي تتمثل في التصورات والخيال – الحس – الذهن – الشعور، إذ هو يربط جميع حواس المُشاهِد ببعضها البعض عن طريق الصورة السمعية.
وهذه الطريقة من جماليات فن التمثيل العربي، وهذا راجع إلى المشاركة بين الصييت (القاص) والمستمعين، ونكمل في المقالة القادمة إن شاء الله، الحديث عن المسرحة التأثيرية، طريقة فن الصييت التمثيلية.