

بقلم الكاتب الصحفي: أحمد الغريب
كانت ليلة يوم السبت (31 أغسطس 2025)، ليلة فارقة في العدوان الإسرائيلي المتواصل على غزة منذ نحو عامين، تلك الليلة التي شهدت تصريحات متوالية لكبار قيادات العدوان تتعلق بنجاح إسرائيل في تنفيذ عملية إغتيال قذرة للناطق باسم كتائب عز الدين القسام الجناح العسكري لحركة حماس (أبو عبيدة) بعد ملاحقة استمرت عدة سنوات.
بطبيعة الحال كان (بنيامين نتنياهو) رئيس حكومة العدوان أول من خرج على شاشات التلفزيون الإسرائيلي، قائلاً: (هاجم الجيش الإسرائيلي (أبو عبيدة)، ونحن ننتظر النتائج)، لاحظت أن إعلان حماس تأخر قليلا. يبدو أنه لا يوجد من يطلعنا على هذا الأمر”.
ومن ثم تبعه وزير العدوان (يسرائيل كاتس) بقوله / (تمت تصفية المتحدث باسم إرهاب حماس في غزة، (أبو عبيدة) وفق تعبيره.. ولم يصدر رد فوري من حماس أو كتائب القسام حول مصيره بعد.
كما ذهب رئيس أركان جيش العدوان، (إيال زامير) لأبعد من ذلك بقوله: (استهدفنا أحد كبار قادة حماس، (أبو عبيدة) … لم تنتهِ عملياتنا بعد، فمعظم قادة حماس المتبقين موجودون في الخارج، وسنصل إليهم أيضًا).
ومن ثم أعلن جيش العدوان في بيان له: (إن الهجوم نفذ باستخدام ذخائر دقيقة، وبمراقبة جوية دقيقة، مع الزعم أن معلومات استخباراتية مركزة وصلت قبل وقت قصير من العملية إلى جهاز (الشاباك) والإستخبارات العسكرية (أمان)، وتبع ذلك إطلاق محاولة الاغتيال.
وتم تنفيذ العملية من غرفة العمليات الخاصة بجهاز (الشاباك)، نظرًا للأهمية المركزية لـ (أبو عبيدة) داخل حركة حماس.
على إثر تلك التصريحات والبيانات، سارعت وسائل الإعلام الإسرائيلية من أجل تأكيد الخبر رغماً عن أن حركة حماس لم تؤكده.

التباهى بالقتل
بطبيعة الحال حاولت إسرائيل التفاخر بتلك العملية مع التباهى بقدرات جيش العدوان وأجهزة الاستخبارات التابعة له في ملاحقة قيادات المقاومة الفلسطينية.
على سبيل المثال، سارعت هيئة الإذاعة الإسرائيلية، في التأكيد على محورية شخصية (أبو عبيدة) داخل حركة حماس، مع تأكيدها على أن نجاح عملية اغتياله سيترك تأثيرًا معنويًا ويؤثر على العمليات المعرفية للجماعة.
مع زعمها أن المنزل المستهدف من قبل الطائرات الإسرائيلية كان قد استأجرته عائلة (أبو عبيدة) قبل عدة أيام، وكان يتواجد فيه زوجة أبو عبيدة وأولاده، وأنه (خلال القصف تطايرت كميات كبيرة من الأوراق النقدية).
أما صحيفة (معاريف)، فاعتبرت من جانبها إنه وفي ظل تضارب الروايات بين النفي والتأكيد، يبقى مصير (أبو عبيدة) غامضا، وقالت: (أن رحيله إذا ما ثبت بشكل قاطع، يمثل ضربة قوية لحماس، إذ كان يُعتبر أيقونة إعلامية ارتبط اسمه برسائل الحركة الدعائية منذ اندلاع الحرب، ووجها بارزا في نظر أنصار الحركة داخل غزة وخارجها).
فيما وصفت صحيفة (يديعوت أحرونوت) الإستهداف بإنه (تتويج) لجهود استخباراتية إسرائيلية طويلة الأمد، وقالت إنه في بداية الحرب، قام الجيش الإسرائيلي بالكشف عن الاسم الحقيقي لـ (أبو عبيدة)، وهو (حذيفة سمير عبد الله الكحلوت)، ونشر صورته الحقيقية دون اللثام.
وزادت على ذلك بقولها: (لم تكن هذه المحاولة الأولى لكشف هويته، ففي عام 2014، أثناء عملية (الجرف الصامد)، استولت إسرائيل على قناة الأقصى التابعة لحماس، وبثت صوراً لأبو عبيدة بوجه مكشوف، ودعت سكان غزة إلى عدم تصديقه)، وفي مايو الماضي، رجح الجيش الإسرائيلي أن المتحدث كان يختبئ إلى جانب (محمد السنوار).
في ذات السياق أكدت صحيفة (جيروزاليم بوست) أن (أبو عبيدة) كان هدفاً رئيسياً ليس فقط بسبب الأضرار العسكرية التي يمكن أن يسببها، ولكن أيضاً بسبب الضرر السياسي الذي ألحقه بإسرائيل”.

صوت المقاومة للعالم
عكست تلك التصريحات والتقارير الأولية التي بثها الإعلام الإسرائيلي حالة النشوة غير المسبوقة التى عاشتها قيادات العدوان في تلك الليلة، فالثابت هو أن (أبو عبيدة) ليس شخصية عادية في قيادة المقاومة، بل هو على رأس المؤثرين في نشر الرواية الفلسطينية وتوصيل رسائل المقاومة للعالم.
إذ أطل الناطق باسم كتائب عز الدين القسام الجناح العسكري لحركة حماس (أبو عبيدة)، بخطاباته التي تحويها مقاطع مصورة، سرعان ما تكون هي الأكثر انتشارًا، ومشاهدة فور بثها.
ومنذ ظهوره الأول قبل نحو 20 عامًا، احتل مكانة رفيعة في عقول، وقلوب، وأفئدة عشرات الملايين من المتابعين. رغم أنه ملثم، محجوب الوجه، إلا أن حضوره قوي، ثري، الكل يترقب ظهوره، حتى الإسرائيليون، فرغم تجاهل وسائل إعلامهم لخطب (أبو عبيدة)، فإنهم يتداولونها على صفحاتهم، ومنصاتهم، مترجمة إلى العبرية.
كان (أبو عبيدة) حالة إعلامية فريدة يستخدم الكلمة بذكاء وحنكة فائقين.. يطوعها ليصنع وعيًا لدى الجماهير العربية التي كانت قد شبعت يأسًا، وإحباطًا، وكان بمفرده، يعد مؤسسة إعلامية عملاقة، متقدمة فكرًا ومحتوى.
كان جيش ضخم، يخوض حربًا نفسية فائقة الجودة والدهاء فيضرب بها معنويات الكيان بشدة. فقد أجاد استغلال اللغة وسك المفردات لتحقير الكيان، بأوصافه وكلماته، على شاكلة كيان هش، مؤقت، عابر، قابل للزوال، أوهن من بيت العنكبوت.. العدو المجرم، الجبان، العالق في رمال غزة، الذي يهرب من أشباحه.
واصفًا مستوطني الأراضي المحتلة بأنهم لمم، لا جذور لهم، ولا رابط بينهم، بما يشي بأنه كيان غير متماسك.
ظهر الملثم (أبو عبيدة)، لأول مرة، أثناء معركة أيام الغضب في غزة (أكتوبر 2004) مسلحًا، مرتديًا قناعًا أسود، محاطًا بحراس، على هيئة مماثلة له.. ليعقد المؤتمر الصحفي الأول لكتائب القسام داخل مسجد النور شمالي مدينة غزة.
ومن ثم تم تكليفه، عام 2006، متحدثًا إعلاميًّا للقسام. آنذاك، أعلن عن أسر الجندي الإسرائيلي (جلعاد شاليط)، فكان إعلانه صدمة قوية، وإهانة لجيش الاحتلال، وزلزالًا للمستوطنين في الأراضي المحتلة، والبداية لالتفات الجمهور العربي، والإسرائيلي إليه، وترقب عشرات الملايين (عربًا، ومسلمين، وإسرائيليين) لظهوره.
منذ ذلك الحين، وجيش العدوان، لا يكف من آن لآخر عن إعلان استهداف أبي عبيدة وتصفيته، مثلما حدث، أعوام 2006، و2008، و2012، و2014، وآخر هذه الإعلانات عن استهدافه كان يوم 25/10/2023. تمامًا، مثلما أعلن الاحتلال عن تصفية قادة للمقاومة الفلسطينية في العديد من المرات.. ثم يتبين لاحقًا، أنهم أحياء، ويظهرون علنًا أو يوجهون رسائل، وما شابه.

رسائل الاغتيال
السؤال هو لماذا تخاطر دولة الاحتلال بالإعلان عن اغتيال قادة المقاومة ومنهم (أبو عبيدة)، دون أن تكون على يقين بوفاتهم (استشهادهم)؟
والإجابة: هى أن الاحتلال، يبعث من خلال هذه الإعلانات برسائل لأطراف ثلاثة: أولها؛ للمستوطنين في الداخل، بتسويق هذه الاغتيالات سواء صحيحة أو العكس لرفع معنويات جمهوره، وإظهارها كإنجازات عسكرية عوضًا عن إخفاقاته الميدانية في غزة، ومقتل جنوده، وكذلك تهدئة عائلات الجنود وذوي أسراه في غزة، لتخفيف ضغوط الأصوات المطالبة بوقف الحرب.
ثانيها؛ للفلسطينيين، حربًا نفسية عليهم، فالترويج لهذه الاغتيالات (المزعومة أحيانًا)، يستهدف نشر الحسرة وخيبة الأمل بينهم، وضرب معنوياتهم سواء في الشارع الفلسطيني، أو صفوف المقاومة، وإيهامهم جميعًا، بأن حركة حماس تنهار، ولن تصمد، وفي طريقها للتفكك والتلاشي، والاستسلام.
والطرف الثالث والأخير المستهدف برسائل دولة الاحتلال من سياسة الاغتيالات، هو الحلفاء الداعمون له في جرائمه، وهم أمريكا وبريطانيا، وغيرهما، لإقناعهم باستمرار الدعم، كون إسرائيل هي الأداة لهذه الدول الاستعمارية (بأساليب مستحدثة) للسيطرة على المنطقة وتوظيفها وثرواتها لخدمة أجندتهم.

استهداف الإعلام الفلسطيني
كذلك يمكن التأكيد على أن عملية الإغتيال وأن ثبت نجاحها، تندرج في إطار الإستهداف الإسرائيلي المتواصل للإعلام الفلسطيني، إذ قُتل حتى الآن نحو 250 صحفيا فى استهداف مباشر وبدم بارد.
لذلك فإن إعلان قائد العدوان ( بنيامين نتنياهو) وبنفسه فور تنفيذ العملية أنه تم استهداف الناطق باسم كتائب القسام (أبو عبيدة)، بمثابة تأكيد آخر على ارتكاب إسرائيل جرائم حرب فى قطاع غزة، وأنها تستهدف المدنيين والصحفيين وكل الأصوات بلا تمييز.
لم يكن (أبو عبيدة) مقاتلا ضمن مقاتلى حماس، وإنما كان المتحدث باسمها أو بمثابة وزير إعلامها، لكن جيش العدوان لم يعد يفرق بين هذا وذاك، وكما قيل في سياق التحليلات التي تلت تلك العملية القذرة “لو أننا نعيش فى عالم حر، كما كانوا يقولون لكان اعتراف نيتانياهو باستهداف أبو عبيدة وحده كفيلا بارتكاب إسرائيل أعمال الإبادة الجماعية.
لان (أبو عبيدة) لم يكن يحمل مسدسا وإنما كان يحمل ميكروفونا ويذيع البيانات المختلفة.
كما أن الثابت هو أن تلك العملية لن تنهى معها صوت المقاومة الفلسطينية وسيتوالى ظهور شخصيات أخرى من داخل المقاومة وتستمد الحقيقة من روحها، وسوف تكون هناك أجيال جديدة للمقاومة كما حدث قبل ذلك، حينما اجتاحوا بيروت وغزة والضفة مرات عديدة، وفى كل مرة تظهر أجيال جديدة رافضة للاحتلال، ومطالبة بالعدالة مهما تكن التضحيات والتحديات.
إجمالاً فإن قوة تأثير (أبو عبيدة) وفعالية خطاباته ترجع إلى المصداقية، التي يتمتع بها، إذ كان يتحدث باسم المقاومة، ومن وسط نيران الحرب في غزة، ويمتلك لغة عاطفية، وقدرة على توظيفها لإثارة الشعور بالعزة، والكرامة، والإيمان مع تماسك خطابه منطقيًا، ودعمه بالبيانات، والوقائع العسكرية الميدانية. ورغم كل ذلك يظل مصير (أبو عبيدة) رهينًا بإعلان من حماس، ليقطع الشك باليقين.. وللحديث بقية..