
بقلم الباحث المسرحي الدكتور: كمال زغلول
كان يوجد في مصر فرق تسمى (المحبظين)، كانت فرق جوالة ، تعرض عروضها في المنازل والمناسبات وممكن في الساحات ، ليس هناك دلالة لغوية تدل على معنى اسم المحبظين، ولكن في لسان العرب وردت كلمة حبظ للدلالة على الغضب، إذ أن حبظ: (المحبنظئ: الممتلئ غضبا كالمحظنبئ).
وكلمة (المحبظين) في اللهجة العامية دالة على من يقومون بالتمثيل الساخر، ويبدو أن معنى الممتلئ غضبا الدال على هذه الكلمة عائد إلى أن عروض هؤلاء الممثلين كما يذكر فليب سادجروف – المسرح المصري في القرن التاسع عشر.
فهى كانت في أغلب الأحيان ذات طبيعة تهكمية، إذ أنها موجهة ضد البيروقراطية التافهة الجشعة من جامعي الضرائب، ممن ينهبون الفلاحين ويروعونهم، وهذا يعني أنهم كانوا يغضبون للشعب، ويعبرون عن تلك المشاعر بأسلوب ساخر بهدف تقديم هؤلاء المستغلين بصورة حقيرة أمام الشعب، وهذا يرضي الشعب إذ يسخر منهم ويعبر عن غضبة بتلك المسرحيات الساخرة.
و(المحبظين) كانوا فرقاً مسرحية جوالة، وكانت تلك الفرق تقدم عروضاً مسرحية تمثيلية هزلية، في الشوارع أو ساحات بعض المنازل، وفي الأفراح، وفي المناسبات العامة، إلا أن هذا الفن وصف بأنه أقرب ما يكون إلى الدراما الحديثة، وقد اندهش الرحالة (نيبر) من وجود هذا الفن في القاهرة.
إذ ينوه إلى ذلك بقوله: لم نكن نتوقع أن نرى مسرحية (تمثيل) في القاهرة: ولكن كان يوجد في القاهرة مجموعة من الممثلين، مسلمين ومسيحيين ويهود، في نفس الوقت الذي وصلنا فيه إلى المدينة.
وكان مظهرهم يدل عي أنهم فقراء، وكانوا يمثلون مقطوعاتهم في أي مكان يدعون إليه مقابل أجر زهيد، وكانت عروضهم في الهواء الطلق.. ويستخدمون فناء البيت مسرحاً لهم، وكانوا يستخدمون ستارة تكون حاجزاً بينهم وبين الجمهور ليبدلوا خلفها ملابسهم.

تكرار هذه الحيل الشهيرة
ويصف (نيبر) واحداً من عروض تلك الفرقة، بعد دعوتهم إلى منزل عائلة إيطالية تسكن في مصر لكي يشاهدوا تلك الفرقة، ويصف ذلك العرض بقوله: (القطعة التمثيلية كانت باللغة العربية، ولم أكن على دراية بتلك اللغة لكي أفهم الحوار، ولكن القطعة التمثيلية اتضحت لي).
حيث إن الشخصية الرئيسية كانت أنثى ولكن كان يمثلها رجل في ملابس النساء، وكان يعاني كثيرا لإخفاء لحيته، وهذه البطلة كانت تدعوا المسافرين إلى خيمتها، وبعد سرقة حوافظ النقود الخاصة بهم، تضربهم بشدة بالعصي، وبعد أن جردت هذه السيدة الكثيرين من ملابسهم، قام تاجر شاب أعلن عن ضجره من تكرار هذه الحيل الشهيرة.
وأعلن بصوت عالٍ رفضه للقطعة التمثيلية، وبقية المُشاهِدين أعلنوا استنكارهم للعمل ليثبتوا أن ذوقهم ليس أدنى من هذا الشاب، وأجبروا الممثلين على التوقف ولم تكن المسرحية قد اكتمل نصفها، ومن تدوين (نيبر)عن مصر نستشف أن فن التمثيل المسرحي بمفهومه الحديث كان موجوداً قبل دخول الحملة الفرنسية.
إذ أن (نيبر) كان قد زار مصر في الفترة السابقة على قدوم الحملة الفرنسية، وهذا يعني معرفة المصريين بفن التمثيل الذي يشتمل على مجموعة ممثلين يمثلون مسرحية، أي قبل قدوم ممثلي الحملة الفرنسية، وقبل أبو خليل القباني ويعقوب صنوع، وإذا لم نتمكن من التعرف على النصوص التي كان يؤديها الممثلون في تلك الفترة فهذا راجع إلى عدم التدوين.
وهذا الفن كان له استمرارية في الحياة المصرية، وقد جاء ذكرهم عند (لين)، حيث إن كثيرا ما يسلي (المحبظين) وهم ممثلون يضحكون الناس بنكات حقيرة.. وكثيراً ما يُرَوْن أثناء الحفلات السابقة الممهدة للزواج والطهو في منازل العظماء، وأحيانا في ميادين القاهرة العامة، حيث يجمعون حولهم حلقة من المُشاهِدين.. وألعابهم لا تستحق الذكر كثيرا.
وهم على الأخص يلهون الجمهور وينالون ثناءه بفكاهات عامية وأعمال فاحشة، ولا وجود للنساء في فرق (المحبظين) فيقوم بدورهن رجل أو صبي في ثياب امرأة.
وقد جاء ذكرهم عند (سادجروف) إذ يقول: (كانت هناك بمصر أشكال من دراما الشارع الفجة، ومسرح خيال الظل (القره جوز.. العين السوداء.. أو خيال الظل) وعروض الدمى والمهرجين وفناني التمثيل الصامت والممثلين الجوالين (أولاد رابية).

أقرب الشبه بالدراما الحديثة
كانت كوميديات الآخيرين تحمل أقرب الشبه بالدراما الحديثة، وتذكرنا قصصها البسيطة التي تحكيها بفن التمثيل الصامت أو الكوميديا الارتجالية الإيطالية.
ومن تلك الإشارات التاريخية لفن (المحبظين)، تلاحظ أن فن التمثيل الشعبي، قد توصل إلى مفهوم المسرحية بشكلها القائم على تمثيل الممثل شخصية منفردة داخل العمل التمثيلي.
حيث إن المسرحية كما ذكرها (مجدي وهبة، وكامل المهندس) معجم المصطلحات العربية في اللغة والأدب تعني: (أ- الجنس الأدبي الذي يتميز عن الملحمة أو الشعر الغنائي مثلا بأنه خاص بقصة تمثل على خشبة المسرح، ب- مؤلف من الشعر أو النثر يصف الحياة أو الشخصيات، أو يقص قصة بوساطة الأحداث والحوار على خشبة المسرح).
ومن تلك النقطة نرى أن فن التمثيل الشعبي في مصر عرف المسرحية (التمثيل المسرحي) في شكلها الحديث بدون الاحتكاك بالشعوب الأوربية، وأن هذا يعود إلى معرفة ذلك الفن منذ آلاف السنين، في المسرح المصري القديم، من خلال الفرقة الجوالة التي انتسب إليها (إمحب) الممثل المساعد الذي عثر على قبرة في مصر.
إذ أن عروض فن (المحبظين) قريبه الشبه بالعروض التي كان يقدمها المسرح الديني في مصر القديمة وما قدمته الفرق الجوالة المصرية القديمة مثل: فرقة إمحب، ولذلك يرى الباحث أن الفن الشعبي التمثيلي الحديث سابق على دخول الدراما بمفهومها الأوروبي الحديث، قبل دخولها مصر والعالم العربي، والدلالة على ذلك ما وصفه (نيبر) عن ذلك العرض الذي شاهده.