
بقلم المخرج المسرحي: عصام السيد
أصبحت أكره (المهرجانات المسرحية)، وأمقت سيرتها لا بسبب ما يحدث فيها، بل بسبب ما يحدث قبلها وحولها وبعدها من معارك تبدأ بالهمز واللمز ممن لم يتم دعوته للمشاركة، ثم التشكيك والتهوين فيمن هو مكرم أو عضو لجنة تحكيم ثم التخوين لإدارة المهرجان والادعاء بأن لها مصالح.
وتصل المسألة الى التلاسن والشتائم تحت دعوى الموضوعية والخوف على مستقبل (المهرجانات المسرحية) وسمعتها بعد أن لطخوها هم أنفسهم بالوحل بسبب اتهامات لا يملكون عليها دليل، وتصبح الحركة المسرحية كما حارة عشوائية تختلط فيها الصرخات والاتهامات ولا تعرف من الصادق ومن الكاذب، ومن الباحث عن دور ومن الباحث عن لقمة، ومن هو مهتم بتصفية حساباته الشخصية في ذلك الزحام وتلك الحالة من التردى؟
فلم تكد تنتهى معارك المهرجان القومى للمسرح المصرى التي اندلعت بسبب النتائج و اتُهمت فيها إدارة المهرجان بأنها أخطأت في اختيار المحكمين – برغم أن نفس الإدارة قدمت باعتراف الجميع دورة غير مسبوقة في الانتشار والتخطيط و التنفيذ.
إلا أن البعض اعتبر أن النتائج محت كل هذا، وقالوا أن لجنة التحكيم في (المهرجانات المسرحية) أقل موهبة ممن تحكم عليهم، ولا أدرى كيف اكتشفوا ذلك، ولماذا اكتشفوه فجأة بعد عدم فوزهم؟ ولماذا لم ينسحبوا قبل المهرجان و بمجرد إعلان أسماء لجنة التحكيم؟
لم تكد تنتهى تلك المعركة حتى ثارت معارك أخرى بسبب المهرجان التجريبى وبمجرد إعلان فعاليات المهرجان في المؤتمر الصحفى الأسبوع الماضى!
وبداية أؤكد بأن لا علاقة لى حاليا بالمهرجان، وليست لى مصالح ، فلقد قمت بجميع الأدوار الممكنة كعضو لجنة تحكيم في 2007، وعضو اللجنة العليا للمهرجان من 2016 الى 2019 و مكرما في 2021 ورئيسا للجنة التحكيم في 2023.
وبالتالى فلست انتظر شيئ، إلا أن المهرجان التجريبى يمثل بالنسبة لجيلى ولأجيال كثيرة تالية قيمة هامة لأنه كان نافذة حية انفتحت على العالم بعد انغلاق طويل، فقد جاء عقد الثمانينات ومصر تعانى من مقاطعة عربية امتدت لعشر سنوات، بسبب اتفاقية كامب ديفيد.

المشهد الثقافي العربي
ولكن بداية من 1986 حاولت مصر بقيادة مبارك أن ترمم ما انكسر في عصر السادات وأن تخرج من تلك العزلة و أتي المهرجان التجريبى – الذى لا مثيل له على الساحة العربية – في 1988 ليعيد مصر الى المشهد الثقافي العربي.
و استطاع الدكتور فوزى فهمى – الذى تولى رئاسة المهرجان من دورته الثانية – أن يصنع من المهرجان صرحا عملاقا يتمنى الجميع المشاركة فيه ولو بالمشاهدة، و اهتمت الفرق المسرحية العالمية بالمشاركة حتى وصل عدد العروض الأجنبية في دورته الثانية و العشرين التي عقدت عام 2010 الى 35 عرض أجنبي.
كما شارك 13 عرض عربى، و 23 عرض مصري، كما أصدر المهرجان في تلك الدورة 24 كتابا في فنون المسرح المختلفة ليصبح مجموع ما أصدره 327 كتابا كانت الغالبية فيها للكتب المترجمة عن أحدث ما صدر في فنون المسرح.
وبعد ثورة يناير 2011 توقف المهرجان ليعود مرة أخرى بجهود من لجنة المسرح في ذلك الوقت برئاسة الدكتور سامح مهران و معه الأساتذة: (فهمى الخولي، أبو العلا السلاموني، ناصر عبد المنعم، جرجس شكري، عصام السيد) إلى أن استطاعوا استعادة المهرجان في 2015 تحت مسمى (مهرجان القاهرة للمسرح التجريبي) والمعاصر وعقدت الدورة الأولى بهذا الإسم في 2016.
ومنذ بداية المهرجان الأولى مازال النقاش محتدما: ما هو التجريب؟، وهل هناك مسرح تجريبى أم تجريب في المسرح؟، وكلها من وجهة نظرى مناقشات لا ضير منها، ولكن مكمن الخطر فيما نراه الآن من دعاوى لإلغاء المهرجان لأنه استنفد أغراضه وخفتت أضوائه.

وهج المهرجان التجريبى
أعتقد أن هناك عوامل كثيرة أدت الى خفوت وهج المهرجان التجريبى، بعضها عوامل فنية و بعضها عوامل اقتصادية ، أولها و أكبرها – من وجهة نظرى – هو أن دهشة البدايات قد تقلصت و أن الصدمة الحضارية التي أصابت البعض من مشاهدة عروض تختلف عما ألفناه قد زالت، فلقد رأينا كيف تحول (المسرح) إلى (فنون الأداء)، وكيف عبر الرقص المعاصر عن النصوص الكلاسيكية.
وكيف اختلط السيرك بالعروض المسرحية وكيف صارت السينوغرافيا أحيانا هي العرض، فما هو الجديد اليوم بعد 37 عام من لحظة البداية؟، وهل يظهر سنويا هذا الجديد ليضمه المهرجان ؟
والعامل الثانى أن استعمال شبكات التواصل الاجتماعى وخاصة (اليوتيوب) قد جعل العالم قرية كونية منذ ظهوره في ،2005 وأصبح الحصول على الجديد في الفنون سهلا و بكبسة زر، فما يحدث في أمريكا ستراه في لحظتها في أعماق أفريقيا شريطة توفر (باقة) والكل يشاهد و الكل يستفيد، حتى أصبحت مشكلتنا الآن البحث وراء العروض أيها أصلى وأيها مسروق من النت.
العامل الثالث ان انتشار الفلسفات الحديثة مثل التفكيكية وتيارات ما بعد الحداثة وما بعد الدراما (وجميع سلسلة ما بعد) جعلت معظم الانتاجات المسرحية شكلانية، ولا تتبع قواعد محددة وبالتالى صار الكل تجريبيا دون التعمق في جوهر التجريب، وهو أن تأتى بجديد مدهش وطازج وصادق ويعبر بشكل مختلف عن الانسان و ليس مجرد تهويمات تقصى المتفرج عن فن المسرح.
العامل الرابع وهو اقسى العوامل أن ميزانية المهرجان التي تقلصت عدة مرات نسبيا بسبب زيادة الأسعار و ارتفاع سعر الدولار جعلت المهرجان يقلل عدد الفرق و يقلل عدد الأيام و وصل الأمر للأسف الى تقليل عدد الوجبات، وفي المقابل أصبحت معظم الفرق الأجنبية تطالب بأجور لعروضها.
وكانت بعض الدول تتحمل تلك التكلفة، ولكن مع الازمات الاقتصادية المتتالية في العالم و الكوارث والحروب لم تعد هناك جهات داعمة كما كان من قبل، ويضاف إلى هذا أن مكافآت كافة العاملين في المهرجان (عمال المسارح – الإداريين – السائقين – اللجان المختلفة – الإعلاميين ونقاد النشرة اليومية) تتحملها ميزانية المهرجان بعد أن كانت – قبل 2011 موزعة على عدة جهات.
أمام كل هذه المشكلات: هل أصبح المهرجان بلا داع ؟
بالتأكيد أن مشاهدة المسرح والانغماس في التجربة الحية تختلف تماما عن رؤية عروض مسجلة، وأن الاحتكاك الدولى له أهمية قصوى ليس على مستوى العروض فقط وإنما على مستوى النقاشات والمحاورات، وله مردود ثقافى وسياحى وأيضا مردود سياسى يحتاجه الوطن.
وإذا كان للبعض تحفظات على (المهرجانات المسرحية) فليناقشها بهدوء وتعقل وبلا إدعاء أنه من ملاك الحقيقة المطلقة، و يتهم مخالفيه بالجهل، فأعتقد أن مهرجانا دوليا للمسرح على أرض مصر هو مكسب للجميع يجب أن نحافظ عليه، وأن نختلف على طريقة إعادة رونقه لا على طريقة محوه من خارطة المهرجانات.
أما الباحثين عن دور أو منصب أو مكسب فالأولى بهم أن يبتعدوا عن المشهد بدلا من الفضائح، أما هؤلاء الذين يصفون حساباتهم على أرض (التجريبى) فهناك أراض أخرى أولى بهم و بمعاركهم.