
بقلم الكاتب الصحفي: رسمى فتح الله
في أزقة بولاق أبو العلا العريقة، كان هناك بيت يفيض بالفن والحياة، حيث عاش محمد كمال حسني البابا، الخطاط الكبير والفنان الذي يحول الحروف إلى زخارف سماوية، ويطوّع القلم كما لو كان عصا سحر، يرسم بها آيات القرآن وأسماء الله الحسنى.. هذا البيت كان بمثابة تكعيبة عنب، وسط دفء الحروف وروائح الحبر، نبتت فيه حبتا العنب: (نجاة)، الحبة العسلية الصافية، و(سعاد حسني)، الحبة الحمراء المشبعة بالحياة.
(نجاة) كانت هادئة، شفافة كنسيم الفجر، تغني فتتراقص النغمات في الهواء كما لو كانت شعاعًا من الضوء يملأ المكان بسحره، و(سعاد)، على العكس، كانت مليئة بالطاقة، ضحكتها تملأ المكان، وخطواتها تبدو وكأنها تصنع موسيقى غير مرئية.
من بين أصوات شارع بولاق القديم ونداءات الباعة، ومع حكايات الأب وصرامة فنه، بدأ العالم يلتفت إلى موهبتين ستحتلان ذاكرة العرب لعقود.

الانسجام مع اللحن والكلمة
بدأت (نجاة) رحلتها على مسرح معهد الموسيقى العربية وهي في عمر خمس سنوات.. كانت أول أغنية تغنيها قصيدة لأم كلثوم، لتدخل عالم الغناء بخجلها ونقاء صوتها.
كانت تلك المرحلة تمرينًا لصوتها الدافئ، مرحلة تقليد وتعلم، حيث غنت أعمال الآخرين لتتدرب على التنفس والانسجام مع اللحن والكلمة.
ثم جاءت مرحلة بناء الشخصية الغنائية فى سن 16 عامًا، حيث تعاونت مع الملحنين كمال الطويل وبليغ حمدي، الذين ساعدوها على تطوير صوتها، وضعوا ألوانًا جديدة على موهبتها، ومنحوها القدرة على التميز بين الأصوات الأخرى فكانت أغنيتها (ليه خلتني أحبك) عام 1955.
اختياراتها كانت دقيقة، والنتيجة أغانٍ قصيرة المدة لكنها عميقة التأثير: (اسهر وانشغل أنا، أما غريبة، ليه خلّتني أحبك).
كل أغنية كانت تترك أثرًا دائمًا، مثل حبة عنب عسلية صافية، تحفظ في الذاكرة نكهتها الخاصة مهما مر الزمن.
بداية انطلاقها الرسمي كانت المرحلة الأهم مع الأستاذ محمد عبد الوهاب، الذي أضاف الرتوش الأخيرة، واحتضن صوتها ليضعه في برواز فني متقن، ودعمها في اختياراتها الفنية، وكانت فى تلك المرحلة قصائد نزار القباني وكامل الشناوي.

النغمة التي تلمس القلب
(نجاة) لم تكن تبحث عن صخب أو شهرة، بل عن النغمة التي تلمس القلب، عن الكلمة النظيفة واللحن الرفيع، أما سعاد حسني، فقد وجدت لنفسها طريقًا مختلفًا.
منذ طفولتها، عبر البرامج الإذاعية للأطفال، قبل أن تدخل عالم السينما بفيلم (حسن ونعيمة) فتتفتح أمامها شاشة مصر الكبيرة.
أداؤها كان طبيعيًا وعفويًا، وكأنها تعيش أمام الكاميرا، ضحكتها تحمل الموسيقى ودمعتها الشعر، وخفة حركتها تشبه راقصات الباليه، فتتحول كل لقطة إلى قصيدة بصرية وصوتية.
العنقود الفني لعائلة حسني البابا لم يقتصر على حبتا العنب، فقد كان للأخوة الستة الآخرين حضورهم في البيت، الذي ظل رابطًا روحيًا بين العائلة، رغم اختلاف مسارات نجاة وسعاد.
الأب (محمد حسني البابا) كان الجذر الذي يمنح الشجرة قوتها، لم يكن مجرد والد، بل كان معلمًا وفنانًا يحفظ للتاريخ ذكريات نادرة في الخط العربي، ومع كل حرف يخطه كان يعكس جمال الروح وفن التعبير.
في القاهرة الخمسينيات، كانت الحياة الفنية تزدهر بين استوديوهات السينما والإذاعة، وبين عربات الترام وصخب الباعة.. (نجاة) تتعامل مع العمالقة: عبد الوهاب وضع لها الرتوش الأخيرة، بليغ حمدي وكمال الطويل ساعدوها في تكوين شخصيتها، ومع مرور الوقت أصبح صوتها رمزًا للرقي والغناء الذي يلمس القلب.

تجسد روحها في الشاشة
(سعاد)، الحبة الحمراء، تعايشت مع سينما مصر بكل ألوانها: من (خلي بالك من زوزو) إلى (الكرنك) و(شفيقة ومتولي)، أغنية (بانو) أصبحت جزءًا من حياتها الفنية، تنسج صراعاتها، ضحكها، ألمها، وتجسد روحها في الشاشة.. كلمات الأغنية التي كتبها صلاح جاهين تقول: (بانو بانو بانو على أصلكوا بانو).
تعكس حياتها المليئة بالمواجهات والتجارب، وتكشف عن صراعاتها مع الأصدقاء والخيانة والمجتمع، كما تعكس القوة و حب الحياة التي كانت تتحلى بها.
وعصير العنب العناني نقطة ورا نقطة لعذابي، كأنما القدر ساق الحبة الحمراء إلى كأسها الأخير، فكلما ازداد ضحكها، كان الحزن يقطر في سرها، وكلما صعدت على سلم المجد، كان السقوط يترصد ظلها.
تحكي زوجة الأستاذ (صلاح جاهين) أن سعاد حسني اتصلت بالهاتف في المنزل الساعة الخامسة عصرًا، بصوت حزين مرتجف تقول: (ممكن تبلغي الأستاذ صلاح إني هجيله الساعة 3 الفجر، عايزاه في حاجة كده!، ثم أغلقت الخط.
وجاءت سعاد الساعة الرابعة والنصف فجرًا، تطرق الباب.. فتحت لها، ووجدتها بلا ميك أب، بلا باروكة، بلا ابتسامتها المعهودة.. دخلت، وظلت أكثر من عشر دقائق في صمت مطبق، قبل أن تنهار أخيرًا بالبكاء، صرخة صادقة من قلب متألم.
هدأت قليلًا، ثم تحدثت مع صلاح: (أنت عارف مين اللي وجعني وأذاني في حياتي، ومين استغلني.. وقلبي اتحرق من مين.. أنا عايزة منك كلمات أغنية تقول كل اللي تعبوني بالقلم بكلامك يا أستاذ صلاح ، عايزة أعرفهم إنهم ولا حاجة).

صرخة في وجه العالم
كانت (سعاد) تريد أن تصرخ في الأغنية، أن تعبر عن مشاعرها الإنسانية الصادقة، عن طيبتها التي استُغلت وسذاجتها التي صدقت الآخرين.. سجلت أغنية (بانو) ست مرات، بسبب بكائها المتكرر وكأنها صرخة في وجه العالم، ليست مجرد أغنية فيلم، بل رسالة حقيقية من قلب حقيقي.
ثم قالت: (دوروا وشكوا عني شوية، كفاياني وشوش ده اكم من وش، عذر بي ولا يتكسفوش. وعصير العنب العناني… نقطة ورا نقطة لعذابي).
مثل حبات العنب في عنقود واحد، كل واحدة تحمل نكهتها الخاصة.. حبة العنب العسلية، (نجاة)، تلمع بصوتها النقي الذي يترك أثره في القلب، مثل ضوء يسري بين السطور والذكريات.. وحبة العنب الحمراء (سعاد حسني)، التى رغم المعاناة تحمل دفء الحياة وحركتها النابضة، تملأ المكان طاقة وضحكًا وحزنًا، كأنها موسيقى تتحرك مع الهواء.
مهما مر الزمن، يبقى أثر كل منهما حيًا في ذاكرة النخبة والجمهور، مثل حبات عنب تحفظ حلاوتها في الذكرى، رغم أن الزمن قد يغير الطعم المادي، يبقى الأثر والمعنى خالدًا، لا يبهت ولا يزول.
اليوم، حين نتذكر (نجاة) و(سعاد)، لا نستعيد فقط أعمالهما، بل زمنًا كاملًا، فيه كانت القاهرة تصنع النجوم من بيوت الناس العادية، وتمنح الموهبة الحقيقية فرصة أن تلمع، أن تعيش، وأن تترك أثرها في القلب والذاكرة.