محمد الروبي يكتب: (زياد الرحباني) والسينما


بقلم الكاتب والناقد: محمد الروبي
حين يُذكر اسم (زياد الرحباني)، يركز كثيرون على المسرح وألحانه، على الموسيقي الذي يصنع كل شيء بنفسه، من الفكرة إلى آخر حركة ونغمة. لكن السينما، رغم خفوت الحديث عنها مقارنة بشهرته المسرحية، كشفت جانبًا آخر من فنه، حيث أصبح الصوت والجسد والرمز أدوات متكاملة، يستخدمها لإعادة خلق الواقع النفسي والاجتماعي على الشاشة.
قبل أن يدخل فضاء الشاشة الكبيرة، كان (زياد الرحباني) قد صنع في المسرح مملكته الخاصة، حيث كل شيء – الكلمة، الضوء، النغمة، الصمت – يدور في فلك رؤيته. وفي تلك الفترة، كانت السينما العربية، خصوصًا في لبنان وسوريا، تعيش حالة من التجريب الفني والسياسي؛ ففي سوريا برزت الواقعية الجديدة التي دمجت اليومي بالرمزي، وفي لبنان صاغت الحرب لغة بصرية تبحث عن صوت يترجم الفوضى والحنين معًا.
(زياد الرحباني)، لم يأتِ كملحن عابر أو ممثل طارئ، بل كصوت كامل التكوين، يلتقط من الموجة السورية عمقها الرمزي، ومن التجربة اللبنانية صدقها العاطفي، ويعيد صهرهما في أسلوبه الخاص، حيث الموسيقى ليست خلفية، بل شريك درامي يوازي الكاميرا.
في المسرح، كان سيد التفاصيل؛ الكلمة، الحركة، الصمت، النغمة، كلها تحت قبضته. أما في السينما، فهو ضمن فريق متعدد الرؤى، لكنه يترك أثرًا يتجاوز دوره الظاهر، يبوح بما تعجز اللغة عن قوله، ويزرع بعدًا شعوريًا وفكريًا متكاملاً
نهلة (1979) – الموسيقى كقلب صامت
أولى خطواته أمام الشاشة جاءت في نهلة، إخراج وكتابة فاروق بلوفة، حيث أصبح (زياد الرحباني) السينمائي موسيقيًا يروي الصمت الداخلي للشخصيات. الألحان ليست زخرفة، بل نبض يواكب وجوه الشخصيات، يعلو حين يشتد الصراع ويخف لتسهيل صمت أبلغ من الكلام.
تدور أحداث الفيلم أثناء اندلاع الحرب اللبنانية، حيث يزور صحفي جزائري بيروت، ويتعرف على مطربة، فينمو بينهما الحب. ضاع صوت المطربة ذات يوم على مسرح البيكاديللي بباريس، فتتسرب النغمة مثل ظل حنون، تحفر في قلب المشاهد إحساسًا لا يزول.
استخدم (زياد الرحباني) مزيجًا من الهارموني والموّال الشرقي، ليخلق توترًا مزدوجًا بين الحنين والخذلان، بينما تمثل فترات الصمت مساحات تأمل للمشاهد، فتتحرك الموسيقى كعنصر يوازي الكلمة والصورة.
وقائع العام المقبل (1985) – جسر بين الداخل والخارج
في وقائع العام المقبل، إخراج سمير ذكرى، أظهر (زياد الرحباني) قدرته على بناء جسور بين الداخل النفسي للشخصيات وضجيج العالم الخارجي. يروي الفيلم معاناة موسيقي شاب يعود إلى بلده ليؤسس أوركسترا كلاسيكية، لكنه يواجه مأزقًا اجتماعيًا وحضاريًا.
استخدم (زياد الرحباني)، إيقاعات غير منتظمة لتجسيد اضطراب الحالة النفسية، وأدخل آلات نفخ خشبية بصوت خافت كظل موسيقي، بينما وظف الممثلون الصمت كعنصر تعبيري، لتتكامل الموسيقى والحركة النفسية بشكل ساحر.

بيروت اللقاء (1987) – المدينة تتكلم بالموسيقى
في الفيلم الذي أخرجه برهان علوية، يحاول عاشقان (مسيحية وشيعي) لقاء بعضهما بعد أيام الدراسة، لكن الحرب والانقسامات تعترض طريقهما.
موسيقى الفيلم تماهت مع روحه التسجيلية، فمزج العود بالوتريات الغربية، لتعكس الانقسام الداخلي للمدينة بين هويتها الشرقية وتأثيرات الحداثة، مع ترك مساحة لضجيج الشوارع، وكأن المدينة نفسها تتحدث بصوت (زياد الرحباني).
طيف المدينة (1992) – الغربة والحنين
في طيف المدينة، إخراج جان شمعون، تتجاوز الموسيقى حدود المشهد لتصبح ذاكرة متجسدة. يروي الفيلم رحلة رامي، الطفل القادم من الجنوب إلى بيروت وسط الحرب الأهلية. كل صعود في اللحن يذكّر بالشمس، وكل هبوط يذكر بالليل الطويل في الغربة. استخدم زياد تقنية تلوين الصوت ليجعل النغمة تحمل طابعًا بشريًا، بينما تتناغم حركة الكاميرا البطيئة لتعميق إحساس التيه المكاني والزماني.
متحضرات (1999) – نبض المدينة وروحها
في متحضرات، إخراج رندة الشهال، تتنفس الموسيقى مع المدينة، وتروي قصصًا متشابكة خلال الحرب اللبنانية.. تتصاعد الألحان كخطوات الناس، وتتوقف فجأة كأنها التقطت أنفاس الخوف.. تمنح ألحان (زياد الرحباني) الصور طابعًا نوستالجيًا، بينما يعزز دمج الأصوات الحية واقعية المشاهد، ويجعل المدينة تبدو حية حتى في لحظات موتها.
طيارة من ورق (2003) – التمثيل والموسيقى تناغم كامل
في طيارة من ورق، آخر أعمال رندة الشهال، يتجسد (زياد الرحباني) أمام الكاميرا ممثلًا وملحنًا. تدور أحداث الفيلم في قرية درزية على الحدود، حيث تتنقل لميا بين القريتين وتنشأ قصة حب مع جندي إسرائيلي شاب. ينتهي الفيلم بموت لميا، معززًا الشعور بالحصار وبشاعة الاحتلال.
تلعب الموسيقى دورًا مركزيًا، فكل حركة جسدية تكتمل بنغمة، وكل نغمة تعكس صراعًا داخليًا، ليصبح المشهد كتلة واحدة من الانفعال الموسيقي والجسدي والروحي.

ليست مجرد موسيقى تصويرية
(زياد الرحباني) في السينما لم يكن مجرد موسيقي يرافق الصورة، ولا ممثل يندمج في الحكاية، بل صانع تجربة متكاملة، حيث تحكي النغمة، وتترجم الحركة، ويُفسّر الصمت.. من نهلة إلى طيارة من ورق، نسج زياد مسارًا يمزج الصوت بالصورة، والنفس بالمدينة، ليترك للمشاهد نصًا ثانيًا يُقرأ بالأذن والقلب قبل العين.