رئيس مجلس الادارة : محمد حبوشة
رئيس التحرير : أحمد السماحي

محمد شمروخ يكتب: (صنع الله إبراهيم).. آخر رجال حدتو

محمد شمروخ يكتب: (صنع الله إبراهيم).. آخر رجال حدتو
نجح مسلسل (بنت اسمها ذات) نجاحاً كبيراً مما جعله ينضم إلى قائمة الأعمال التى لا تمل من تكرارها

بقلم الكاتب الصحفي: محمد شمروخ

من بين حوالي 15 رواية و4 مجموعات قصصية و6 قصص أدب أطفال للأديب الراحل (صنع الله إبراهيم)، لم يتم إنتاج أعمال درامية، سوى مسلسل واحد هو (ذات) وقد تم تعديل العنوان ليصبح (بنت اسمها ذات) من إخراج كاملة أبو ذكري، وسيناريو وحوار مريم نعوم، ومن إنتاج جابي خوري، بالاشتراك مع BBC!.

و(ذات) كرواية هى من روائع (صنع الله إبراهيم) صدرت طبعتها الأولى في سنة 1992، لكن من قرأ الرواية يعرف كيف تم إضافة تعديلات كثيرة عليها لتناسب العمل الدرامي، كذلك إضافات ممتدة لما بعد عام صدور الرواية لتواكب الأحداث الخطيرة التى جرت فيما بعد.

وقد نجح مسلسل (بنت اسمها ذات) نجاحاً كبيراً مما جعله ينضم إلى قائمة الأعمال التى لا تمل من تكرارها وصار من المسلسلات المفضلة للعائلات.

لكن ماذا عن بقية أعمال (صنع الله إبراهيم)؟!

هناك روايات ومجموعات قصصية أخرى، لاقت انتشاراً واسعاً ويبدو عجيباً أن أحداً لم يفكر في تحويلها إلى أفلام أو مسلسلات، وسبق فيلم كتب له السيناريو من إنتاج سورى، ولكن لم تكن قصته، بل قصة الأديب العراقي فاضل العزاوي، كذلك أنتج له فيلم (شرف) سنة 2021، وكلا الفيلمين لم يكتب لهما الذيوع الجماهيري.

كذلك صرح (صنع الله إبراهيم) في برنامج تلفزيوني بقناة الغد، بأنه يكتب سيناريو لروايته (اللجنة) التى سبق أن صدرت سنة 1981، غير أنه حتى الآن لم يخرج للنور!

هذا مع أن أسلوب سرد (صنع الله إبراهيم)، يمكن أن نطلق عليه، أنه مجسم، لأنه يمتاز بقدرة عالية على أن يشعرك بأن ما يكتبه هو نقل مباشر من الواقع، حتى أن كثيرين من قراء أدبه يظنون أنه يسرد وقائع مر بها في حياته الخاصة وقد سمعت ذلك منه  شخصياً.

لكن فيما يبدو أن الخليفة الفكرية السياسية له، أعاقت ذلك!

محمد شمروخ يكتب: (صنع الله إبراهيم).. آخر رجال حدتو
الاتقان في السرد ورسم الشخصيات وتوالى الأحداث وانعكاس كل منهما على الأخرى

إنه أديب مؤدلج

وليس عيبا أن يطلق على (صنع الله إبراهيم) إنه أديب مؤدلج، فهو لا ينكر بل يفخر بتجربته السياسية التى تسببت في سجنه، بسبب نشاطه في منظمة (حدتو) أشهر وأكبر منظمة شيوعية في مصر، فالفكر الماركسي جزء من تكوين (إبراهيم)، لم يتنكر له ودافع عنه ودخل السجن بسببه منذ 1059 ولمدة خمس سنوات وكتب بعده (يوميات الواحات).

كذلك ألقت تجربته المؤلمة الكثير من الظلال على مؤلفاته التى كانت طبعاتها الأولى تنفد بعد صدورها بوقت قصير ثم تتوالى الطبعات.

ومع أن مجمل أعماله يعتبر قليلاً بالنسبة إلى عمره، حيث توفي في الثامنة والثمانين، إلا أن الاتقان في السرد ورسم الشخصيات وتوالى الأحداث وانعكاس كل منهما على الأخرى، يفسر لنا هذه القلة النسبية!

ولا أظن أنه في زمن تعدد منصات العرض وتيسر طرق التصوير والإخراج، يمكن ألا تجد أعمال (صنع الله إبراهيم) من يقرر إنتاجها دراميا، ولن يتعب السيناريست كثيراً في ذلك، لأن الشخصيات تكاد تخرج من بين أوراق القصص والروايات، كاملة مكتملة لتتلبس بالممثلين وتصغى إلى أوامر المخرجين!

كما أن الأستاذ حياة صنع الله نفسه، تصلح لأن تكون مادة ثرية لعمل درامي، ليس هو فقط، بل إن تاريخ منظمة حدتو نفسها (وهى اختصار الحركة الديمقراطية للتحرر الوطني) مفعم بالتراجيديا التى تشبه التراجيديا الإغريقية، سواء فيما جرى؛ فيها ولها؛ تنظيماً أو أعضاءً!.

فتاريخ حدتو منذ تأسيسها في سنة 1946 بانضمام عدة تنظيمات وجمعيات ماركسية أشهرها (الحركة المصرية للتحرر الوطني حمتو، وإسكرا، والقلعة) يصلح لعمل تاريخي درامي كبير، فبجانب الناحيتين الفكرية والسياسية، واللتين ترتبطان ارتباطاً عضوياً في لدى المؤمنين بهذا الفكر.

هناك أيضًا الجوانب الشخصية الدرامية لكثير من أعضاء التنظيم الشيوعي، هنالك أيضًا، التجارب الإنسانية التى مروا بها وما كان فيها من معاناة في وسط المجتمع المصري المتعطش في تلكم الفترة، لتحقيق الاستقلال، والراغب في أن يرى بعينيه تطبيق العدالة والحرية والتنمية، بما يليق بمكانة بلد مثل مصر، بتاريخها وجغرافيتها وميراثها الحضارى وكفاح شعبها على مدى القرون!

محمد شمروخ يكتب: (صنع الله إبراهيم).. آخر رجال حدتو
أعضاء (حدتو) تميزوا أنهم اعتنقوا فكرا ظل يواجه حروباً شعواء على الأنحاء كافة

الفكر السياسي الشيوعي

أما أعضاء (حدتو) فقد تميزوا أنهم اعتنقوا فكرا ظل يواجه حروباً شعواء على الأنحاء كافة، فهم مرفوضون من سلطات الاحتلال البريطاني العدو العتيد للفكر الشيوعي والمحارب له بلا هوادة، ومرفوضون أيضاً من عملاء هذا الاحتلال في مصر، من رجال السلطة أو المبثوثين في الأحزاب ومؤسسات الدولة والمجتمع.

كذلك كان مرفوضاً من القوى الوطنية المناوئة للاحتلال البريطاني، ومرفوض دينياً من المؤسسات الرسمية، سواءً في المسيحية أو الإسلام أو اليهودية، ومرفوض بالضرورة من قوى الرأسمالية المهيمنة بجبروتها العنيف غير الإنساني وغير الأخلاقي أيضًا، على كل أشكال الحياة الاجتماعية والسياسية في البلاد.

مرفوض كذلك من كثير من المثقفين الذين رفضوا الشمولية التي تسمى الفكر السياسي الشيوعي، بجانب رفض هؤلاء المثقفين لدلالة الإيمان بمبدأ المادية الجدلية، وهو أساس الماركسية وما يعنيه من إنكار التراث الروحي العملاق للشعب المصري، بل وحتى التيارات الاشتراكية الأخرى كانت تنظر بعين الريبة إلى أتباع الماركسية.

وكله هذا (كوم) والرفض الشعبي (كوم آخر).. فلم تكن كلمة شيوعي مجرد تهمة سياسية فقط، بل هى إدانة للشيوعي بالإلحاد، خاصةً أن الاتحاد السوفيتي الراعى الرسمي والمباشر للحركة الشيوعية العالمية وكثير من الأحزاب الشيوعية في الخارج.

كذلك الآباء المؤسسين والدعاة المبلغين للماركسية، كانوا يعلنون إلحادهم ويدعون إليه استناداً إلى رفض الميتافيزيقا وكل ما يرونه ليس علمياً ولا يخضع لقواعد المادية الجدلية!

ومن جهة أخرى، لم يلق أى صدى يذكر، قيام كثير من أعضاء المنظمة خاصةً والشيوعيين المصريين عامةً، بالتفريق بين الفكر وبين الدين، بل ومنهم من كانوا من طلبة الأزهر ولم يقصروا في أداء فروض دينهم، ومنهم من حاول إلباس الأفكار الماركسية الاشتراكية، رداءً إسلامياً وكتبوا أبحاثاً في ذلك!.

محمد شمروخ يكتب: (صنع الله إبراهيم).. آخر رجال حدتو
الرفيق (موريس) عضو تنظيم (حدتو) هو نفسه البكباشى جمال عبد الناصر

البكباشى جمال عبد الناصر

في وسط هذه الأجواء، نشأت التنظيمات الشيوعية في مصر وفي القلب منها تنظيم (حدتو) الذي لم يبق من نجومه حتى 13 أغسطس الجاري، إلا (صنع الله إبراهيم)!

مع ذلك كان للتنظيم وزنه السياسي الذي أهله للمشاركة في الحياة السياسية في منتصف الأربعينيات الثانى وحتى قيام ثورة يوليو ولمعت فيه أسماء صاروا من نجوم الحياة الثقافية والفنية فيما بعد، بل وذكر في بعض المصادر أن الرفيق (موريس) عضو تنظيم (حدتو) هو نفسه البكباشى جمال عبد الناصر!

لكن المؤكد أن حدتو ضمت (خالد محيى الدين ويوسف صديق وأحمد حمروش)، وغيرهم من ضباط الجيش المصري في التنظيم المعروف بـ (الضباط الأحرار).

ليس هذا فقط، بل الدراما ستجدها أيضاً في الخلافات العنيفة والمفارقات بين الرفاق، والتى واكبت حياة المتظمة من محاولات جمع وتفريق وضم وشتات ووحدة وانفصال، كان نتيجتها تشرذم المنظمة نفسها ثم نهايتها قبل دخول عقد السبعينات.

فلا يكاد يدب خلاف فكرى أو سياسي أو إدارى داخل المنظمة عقب نشأتها بين أى فريقين، إلا ونتج عنه انشقاقات بأسماء مختلفة أرهقت مؤرخى الحركات الشيوعية في الأسباب والنتائج والمرام!.

ولتعلم أهمية تأثير (حدتو) في التاريخ المعاصر، يكفي أن تتردد على أذنيك أسماء مثل (عبد الرحمن الشرقاوي ويوسف إدريس وصلاح جاهين وفؤاد حداد وعبد الرحمن الخميسي وجورج حنين وشهدى الشافعي ولطيفة الزيات وإبراهيم فتحى وصنع الله إبراهيم).. وغيرهم كثير من نجوم الفكر والأدب والفن والسياسة والاقتصاد.

ومختصر القول: إن ما أنتجه (صنع الله إبراهيم) يصلح للدراما ويسلط الضوء على جانب دراماتيكي، تم تجاهله في مسيرة الكفاح الوطني المصري.

ولا جدال أنه في وقتنا الراهن، صارت الشيوعية كتجربة ثقافية أو سياسية، عالمية أو محلية، إلى مكانها المهمل في متحف التاريخ، وربما هبطوا بها الى بدروم المتحف، فلم تعد تخيف أحداً، خصوصاً وأنه لا رعاة رسميين أو عرفيين لها من الخارج أو من الداخل.

بل من سخرية القدر أن كثيراً ممن تبقوا من التجربة الشيوعية أو الاشتراكية، هم قد صاروا الآن، إما من كبار رجال الأعمال أو من اللائذين بهم، فلا تكاد تجد استثناءات إلا قليلاً ممن هم كانوا على درب (صنع الله إبراهيم)، الذي عاش في شبه عزلة رهبانية فرضها على نفسه في أيامه الأخيرة.

فلا يخرج ولا يظهر إلا نادراً وبعد إلحاح ثم ما يلبث ان يعود إلى صومتعه الاختيارية المتمثلة في شقته الصغيرة في شارع جسر السويس بمصر الجديدة!.

فهل يفعلها هؤلاء الرعاة ليسجلوا في الاستديوهات جانباً ظل مهملاً طويلاً في ذاكرة مصر المعاصرة، أم مازالت فوبيا الشيوعية تطاردهم في الأوهام الحاضرة؟!

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.