رئيس مجلس الادارة : محمد حبوشة
رئيس التحرير : أحمد السماحي

رسمي فتح الله يكتب: (حسن فايق).. الضحكة التي غلبت الهموم

رسمي فتح الله يكتب: (حسن فايق).. الضحكة التي غلبت الهموم
بدايات الحكاية لم تكن سهلة، ولم تكن الضحكة هدية مجانية

بقلم الكاتب الصحفي: رسمى فتح الله

في قلب الإسكندرية، ولد طفل اسمه (حسن فايق محمد الخولي)، لم يكن أحد يتوقع أن يصبح صوته المجلجل بالضحك علامة مميزة في وجدان المصريين، وأن تتحول ضحكته – تلك التي تبدو عفوية صافية – إلى عزاء لقلوب أثقلها الكدّ والهموم.

 لكن بدايات الحكاية لم تكن سهلة، ولم تكن الضحكة هدية مجانية، بل كانت ثمرة ألم وتجارب وانكسارات، قبل أن تصبح قوس قزح في سماء الفن المصري.

لقد كانت طفولة (حسن فايق) في الإسكندرية مليئة بالحركة والفضول، لكنه لم يكن يعلم أن قلبه، الصغير، سيحمل لاحقًا قدرة على صناعة الفرح للآخرين.

 كان (حسن فايق) طفلًا حساسًا، يراقب الناس من حوله ويلاحظ أصغر التفاصيل في تعابير وجوههم؛ وربما كانت هذه الملاحظة الدقيقة هي سر قدرته على رسم الابتسامة على وجوه الجماهير فيما بعد، على خشبة المسرح أو في أفلامه السينمائية.

رسمي فتح الله يكتب: (حسن فايق).. الضحكة التي غلبت الهموم
تسللت إليه عدوى المسرح، واستوطنت قلبه

دهشة البداية

يروي (حسن فايق) في حوار إذاعي نادر مع الإعلامي الكبير وجدي الحكيم، أن والده أرسله صغيرًا للعمل في محل قريب له في حلوان، متخصص في بيع الخردوات ولوازم السيدات.

كانت الحياة تمضي رتيبة، إلى أن صحبه والده ذات يوم إلى مسرحية للشيخ سلامة حجازي؛وهناك، جلس الطفل بين المقاعد، وتلقى على روحه الناشئة صدمة من الدهشة والإعجاب.

رأى عالمًا آخر، أكبر من البضائع والفواتير والبيع والشراء، عالمًا يلمع تحت الأضواء، فيه الموسيقى والحكاية والوجوه التي تتحول إلى شخصيات.

 ومنذ تلك اللحظة، كما يعترف هو، تسللت إليه عدوى المسرح، واستوطنت قلبه.

لم يكن مجرد إعجاب بالعرض، بل كانت ولادة شغف عميق، شعور بأن هناك حياة أوسع من حياة الشارع والعمل البسيط، وأنه يمكن للإنسان أن يتحرر من قيود الواقع عبر الفن.

لكن القدر لم يُمهله طويلاً مع والده؛ ففقده وهو بعد صغير.

وحين تيتّم من سند الأب، صار المسرح هو الملجأ، هو “الأب البديل” الذي يرعاه بخيالاته ويعطيه المعنى.

كل مرة كان يرى فيها (حسن فايق) ممثلاً يضحك الناس أو يروي قصة، كان يشعر وكأن قلبه يرفرف، وأن ضحكته القادمة ما هي إلا استجابة لما رأى وشعر في تلك اللحظة المبكرة.

رسمي فتح الله يكتب: (حسن فايق).. الضحكة التي غلبت الهموم
في حلوان، كان المسرح يزوره كل أسبوع مع فرق تجوب المحافظات، مثل فرقة عكاشة

من حلوان إلى القاهرة

في حلوان، كان المسرح يزوره كل أسبوع مع فرق تجوب المحافظات، مثل فرقة عكاشة.. كان (حسن فايق) لا يفوّت عرضًا واحدًا، مهما كانت الظروف صعبة.

وحين حاول تكوين فرقة مع بعض أبناء الذوات، لم يلقَ منهم اهتمامًا ؛ لكن الإصرار قاده إلى القاهرة، حيث سمع أن هناك (جمعيات لهواة التمثيل).

دخل إلى عالم تلك الجمعيات التي ضمت أسماء ستصبح لاحقًا أعمدة الفن: (يوسف وهبي، محمد عبد القدوس، عباس فارس، حسين رياض).

 لم يكونوا (نجومًا) بعد، بل هواة يلهثون وراء الشغف.. كانوا يستأجرون (مندرة) في بيت ما، يتدرّبون فيها ويجرون البروفات، ثم يبحثون عن مسرح صغير يعرضون فيه أعمالهم.. كانت أيامًا سعيدة، لكنها صعبة؛ كل فرد يدفع من جيبه القليل الذي يملك، حتى يكتمل العرض.

(حسن فايق) لم يكن يكتفي بالتمثيل فقط، بل كان يجوب المكتبات بحثًا عن روايات مترجمة و مطبوعة، يقرأها بنهم، يحفظ أدواره، ثم يعود ليضحك مع رفاقه على خشبة صغيرة، بينما القاهرة الصاخبة تمضي في حالها.

 وكان هذا الجمع بين التعلم المستمر والممارسة العملية هو ما صقل موهبته، وجعل ضحكته تمتلك رنة خاصة، مليئة بالإحساس بالإنسانية وفهم المشاعر المختلفة.

رسمي فتح الله يكتب: (حسن فايق).. الضحكة التي غلبت الهموم
المونولوجات لم تكن مجرد عروض كوميدية، بل كانت مرايا للمجتمع، تتضمن نقدًا لطيفًا

الضحكة التي تخصه وحده

كان ينظر أحيانًا بغيرة بريئة إلى ما يقدمه محمد عبد القدوس من فن المونولوج. ففكر: لماذا لا أجرب؟ هناك على الأقل فرصة أن أظهر وحدي، أن أضحك الناس دون شريك.

كتب (حسن فايق) أول مونولوج بعنوان: (فقّي القرافة)، فكان نجاحًا صاخبًا.. ثم قدّم مونولوجًا آخر بعنوان (شمّ الكوكاين)، يحارب به هذه الآفة التي كانت منتشرة في الثلاثينيات. لم يكن المونولوج عند (حسن فايق) مجرد نكتة، بل كان سلاحًا اجتماعيًا، يهاجم عادة قبيحة أو يكشف سلوكًا معوجًا، لكنه يفعل ذلك بضحكة آسرة تجعل الرسالة تدخل إلى القلب بلا عنف.

المونولوجات لم تكن مجرد عروض كوميدية، بل كانت مرايا للمجتمع، تتضمن نقدًا لطيفًا، وتحفز المشاهد على التفكير، بينما يستمتع بالضحك.

 أصبح كل مونولوج جديد له حدثًا، ينتظره الجمهور بفارغ الصبر، لأنه يعرف أن حسن فايق سيجعله يضحك حتى لو كانت الدنيا مليئة بالهموم.

رسمي فتح الله يكتب: (حسن فايق).. الضحكة التي غلبت الهموم
انضم (حسن فايق) إلى فرقة عزيز عيد، وهناك التقى الفنانة روز اليوسف

من عزيز عيد إلى روز اليوسف

عام 1916، انضم (حسن فايق) إلى فرقة عزيز عيد، وهناك التقى الفنانة روز اليوسف التي كانت (برمادونا) الفرقة، أي زهرتها الأولى. شاركها بطولة مسرحية (خلي بالك من إيملي) وكانت كوميديا لامعة جعلت اسمه يلمع أكثر فأكثر.

ثم جاء عام 1923، حيث انضم إلى فرقة (يوسف وهبي) بمرتب شهري 15 جنيهًا، وهو رقم معتبر في ذلك الزمن، حتى أنه كان ثاني أعلى أجر بعد يوسف وهبي نفسه. لكنه ترك الفرقة بعد فترة بسبب ضعف الأدوار وتفاهتها، كما وصف هو، ليبحث عن مساحة أوسع للحرية.

كانت هذه الخطوة شجاعة، تعكس وعيه الفني وقدرته على اختيار الفرص التي تمنحه مساحة للتعبير والإبداع.

كانت الخطوة الفارقة حين التحق بمسرح نجيب الريحاني؛ هناك لعب أدوارًا في مسرحيات مثل (ملك الصابون)، ثم (الستات ما يعرفوش يكدبوا) و(الدلوعة)، ومع الريحاني، كما يقول حسن فايق، كان يشعر بالحرية: “ما كانش بيتدخل في أي دور أعمله”.

لكن للريحاني وجه آخر؛ فقد كان يكتب على أفيش المسرحية اسمه وحده: (نجيب الريحاني)، دون ذكر أي ممثل آخر، مهما كان دوره أو براعته.

كان يمنع الصحافة من الكتابة عن شركائه في التمثيل، وكأن المجد له وحده.. ومع ذلك، ظل (حسن فايق) مخلصًا لصداقته، حتى بعد وفاة الريحاني، حين لعب بطولة مسرحية (حكم قراقوش) على مسرحه .

منذ منتصف الثلاثينيات، بدأ (حسن فايق) يطرق أبواب السينما.. من (أولاد الذوات) عام 1932 إلى (عنتر أفندي – 1935)، و(سلامة في خير – 1937)، ثم تتالت الأفلام: (بياعة التفاح، بسلامتة عاوز يتجوز، البؤساء، نشيد الأمل) مع أم كلثوم، (عريس الهنا، انتصار الشباب، ليلة الدخلة).

حتى وصل إلى خمسينيات وستينيات القرن، ليشارك في أيقونات خالدة مثل (إسماعيل يس في البوليس السري، وسكر هانم، والزوجة 13).

كان دائمًا هو الرجل ذو الضحكة المعدية.. لا بطل أول، ولا فتى شاشة، لكنه (الملح) الذي لا يكتمل الطبق بدونه.

كان إذا دخل المشهد، ملأه بهجة.. ضحكته نفسها أصبحت (تريند) قبل اختراع الكلمة.. الناس يقلدونها، الأطفال يتندرون بها، والجمهور يخرج من القاعة وهو يشعر أن الهمّ خفيف، وأن الدنيا مهما ثقلت فهي ما زالت تحتمل الضحك.

رسمي فتح الله يكتب: (حسن فايق).. الضحكة التي غلبت الهموم
كانت الخطوة الفارقة حين التحق بمسرح نجيب الريحاني

عبقرية (العبيط الواعي)

المفارقة أن (حسن فايق) كان يؤدي أدوار (العبيط)، الساذج، قليل الحيلة.. لكنه في الواقع، كما قال عن نفسه: (أنا واعي جدًا وناصح، بالرغم من إني بلعب دور العبيط)، كان يعرف ما يفعله جيدًا؛ كيف يزرع الضحكة، وكيف يترك مسافة دقيقة بين البلاهة والذكاء، حتى تضحك وأنت تفكر: “هو عبيط بجد، ولا بيستعبط؟

كان هذا الجمع بين السذاجة الظاهرية والذكاء الخفي سببًا في أن تصبح شخصيته محبوبة جدًا لدى الجمهور، لأن الناس كانوا يرون فيه انعكاسًا لحياتهم، يعبر عن ضحكاتهم وآلامهم في الوقت ذاته.

بعيدًا عن الأضواء، كان إنسانًا بسيطًا، متواضعًا، عاش حياته بلا ادعاء.. لم يبحث عن مجد شخصي، ولا عن بطولة مطلقة، بل عن متعة الضحك، وعن دور يترك أثرًا في قلوب الناس. ربما لهذا السبب ظل خالدًا، بينما كثيرون ممن تصدّروا المشهد في زمنه تواروا في النسيان.

اليوم، حين نستعيد سيرته، نشعر أننا لا نتذكر مجرد ممثل، بل صديقًا قديمًا.. صديقًا كان يدخل بيوتنا عبر شاشة السينما أو المذياع، يجلس بجوارنا، ويقول لنا بضحكته الشهيرة: “خدها ضحك يا أخي، يمكن تِهون”.

إنها الضحكة التي غلبت الهموم.. ضحكة (حسن فايق)، التي جعلت مصر تبتسم في أزمنة قاسية، والتي ستبقى، ما بقي في القلب مكان للبهجة.

 

 

 

 

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.