

بقلم الكاتب والناقد: محمد الروبي
(مش مهم المسرحية، المهم إنو عم نحكي.. والمهم أكتر إنو حدا عم يسمع).. بهذه الجملة، التي اختتم بها مسرحيته الأولى (نزل السرور)، التي قدمها من تأليفه وإخراجه عام 1974، لخّص (زياد الرحباني) عالمه المسرحي بإيجاز بليغ، كاشفًا عن فلسفة فنية ترى في المسرح حوارًا مفتوحًا، لا عرضًا مغلقًا.. وهو ما سيبقى نهجا لكل مسرحياته التاليات.. (المهم إنو عم نحكي.. والمهم أكتر إنو حدا عم يسمع).
شخصيًا، أرى – وقد يختلف معي كثيرون – أن (زياد الرحباني)، الذي غادرنا منذ أيام، ورغم تعدّد مواهبه وتشعّب إسهاماته، كان المسرح هو ذروة عطائه الإبداعي، ومنصته الأخصب، التي صبّ فيها رؤيته للعالم، وهموم الناس، وسخريته اللاذعة من السلطة والمجتمع والنفاق.
فمنذ بداياته المبكرة، بدا زياد وكأنه وُلد وفي قلبه خشبة مسرح، وعلى الرغم من أنه حمل اسما ثقيلا (ابن فيروز وعاصي الرحباني) كما يُحمل الصليب في العلن، إلا أنه سرعان ما شقّ لنفسه طريقًا مختلفًا، لا يُشبه الرحابنة بل الناس.. طريقًا يعتمد اليومي لا الأسطوري، ويمنح للضحك مرارة، وللحزن سخرية، وللفن موقفًا لا استعراضًا.
قد يُصنّف مسرح ( الرحباني) زياد ضمن ما يُعرف بـ (الكباريه السياسي)، ذلك الفن الذي يوظّف السخرية والارتجال والموسيقى في نقد الواقع السياسي والاجتماعي، لكن هذا التصنيف، رغم وجاهته، يبقى شكليًا، لأن زياد تجاوز القوالب الجاهزة لهذا الشكل المسرحي.
فهو لم يقدّم اسكتشات هجائية سطحية، بل نسج دراما مركّبة، فيها من البساطة ما يضمن التوصيل، ومن العمق ما يضمن البقاء.. شخصياته ليست كاريكاتورية، بل بشر من لحم ودم، يحملون قهرهم، هشاشتهم، تناقضاتهم، وضياعهم.
إن شئنا الدقة، يمكن القول إن (زياد الرحباني) عرّب الكباريه السياسي، ومنحه نبرة لبنانية وعربية أصيلة، تمزج السياسة بالوجدان، والسخرية بالمأساة، والضحك بالأسى المؤجل.

البداية: (سهرية – 1973)
في عام 1973، قدم (زياد الرحباني) مسرحيته الأولى (سهرية)، التي جسدت مزيجاً فريداً من السخرية الحادة والنقد الاجتماعي والسياسي، لتكون صوتاً صريحاً للمواطن اللبناني العادي وهمومه اليومية وتحدياته المجتمعية في ظل ضغوط متزايدة.
اعتمد (زياد الرحباني) في هذه المسرحية على اللغة العامية اللبنانية، التي أعطته قوة وواقعية في التعبير، مما جعله قريباً من الجمهور وراسخاً في ذاكرة المسرح اللبناني كصوت نقدي شجاع ومختلف.

(نزل السرور – 1974)
في العام التالي، 1974، واصل (زياد الرحباني) رحلته المسرحية من خلال (نزل السرور)، وهى مسرحية سياسية كوميدية تناولت الفوارق الطبقية من خلال قصة عمال يستولون على مطعم شعبي في محاولة لتحقيق العدالة الاجتماعية.. حمل العمل رسالة واضحة عن الصراع الطبقي والعدالة الاجتماعية، مع لمسات من الكوميديا التي جعلت النقد أكثر تأثيراً وأقرب إلى الجمهور.

(فيلم أميركي طويل – 1980)
مع اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية، برزت قوة التعبير في أعمال (زياد الرحباني) بشكل أكبر، وأثبت ذلك من خلال مسرحية (فيلم أميركي طويل) التي عرضت عام 1980.. جرت أحداث المسرحية في مستشفى للأمراض النفسية، حيث استُخدم المشفى كرمز للحالة التي بلغها لبنان من الفوضى والاضطراب الطائفي والسياسي والاقتصادي.
استخدم (زياد الرحباني) هذا الإطار ليرسم صورة سوداوية لكنها ساخرة، تعكس واقع الوطن الذي انهار تحت وطأة الحرب المستمرة، من خلال لغة حوارية عامية مليئة بالعبث والسخرية والنقد اللاذع.

(شي فاشل – 1983)
في مسرحية (شي فاشل) التي قدمها عام 1983، تابع (زياد الرحباني) سرد تجربته النقدية للواقع اللبناني، لكن هذه المرة في مرحلة ما بعد الحرب، من خلال حوارات تدور بين شخصيات منهكة في مقهى شعبي.. المسرحية تركز على الحالة النفسية والاجتماعية لشعب يعاني من آثار الحرب، وتعكس شعور الإحباط واليأس، مع جرعة لا تقل من السخرية السوداء.
العودة بعد غياب: (بخصوص الكرامة والشعب العنيد – 1993)، و(لولا فسحة أمل – 1994)
بعد غياب عقد كامل عن المسرح، عاد (زياد الرحباني) في التسعينيات بأعمال تعكس حال لبنان الجديد بعد انتهاء الحرب الأهلية.. في (بخصوص الكرامة والشعب العنيد – 1993)، تناول زياد بأسلوب ساخر موضوعات الكرامة والوطنية، مع رؤية نقدية لحالة المجتمع اللبناني المتغير. وتبعها بـ (لولا فسحة أمل – 1994)، التي تكمل ذات النهج وتقدم قراءة أخرى للمآلات الاجتماعية والسياسية التي يعيشها اللبنانيون.
في الأخير يمكن القول أن النهج المسرحي لزياد الرحباني يتميز بعدة سمات بارزة جعلت منه علامة مميزة في تاريخ المسرح اللبناني والعربي على حد سواء،منها:
أنه اعتمد اللغة العامية بشكل رئيسي، ليجعل صوته أقرب إلى الناس وأكثر صدقًا في التعبير عن واقعهم ومشاعرهم.
كما وظّف الرمزية والعبث بشكل بارع، مستعينًا بأماكن رمزية مثل المقاهي والمشافي، وبمواقف تحمل طابعًا عبثيًا يعكس حالة الاضطراب الاجتماعي والسياسي التي عاشها المجتمع. ولم يكن مفارقًا أن يدمج بين الكوميديا الحادة والدراما الاجتماعية، ليخلق توازنًا يسمح له بطرح قضايا وطنية وإنسانية بطريقة تجمع بين السخرية والجدية في آنٍ واحد.

توجيه نقده الاجتماعي
الشخصية الدرامية عند (زياد الرحباني) ليست بطلًا بالمعنى التقليدي، بل هي وجه من الوجوه التي نراها كل يوم: موظف متوتر، بائعة هوى، عامل بسيط، مهرّج مكسور.. هؤلاء هم من يصنعون النص، ويملؤون الخشبة بوجعهم، لا بشجاعتهم فقط.
أما الموسيقى فكانت عنصراً سرديًا محوريًا في أعماله، حيث أدمج الأغاني داخل المشاهد لتصبح تعبيرًا مباشرًا عن الحالة النفسية والسياسية للشخصيات والمجتمع.
وعلى الصعيد النقدي، لم يتردد زياد في توجيه نقده الاجتماعي والسياسي بشكل مباشر وصريح، مع تركيز خاص على معاناة الطبقات الشعبية والتحديات التي تواجه الوطن بشكل عام.
أظن أن أهم ما في مسرح (زياد الرحباني) أنه لا يسترضي جمهوره، بل يصفعه بالحقيقة، ويدفعه إلى أن يضحك ويحتجّ في آنٍ معًا.. المسرح عنده ليس وسيلة للهروب من الواقع، بل غوص عنيف فيه، لكشف المستور، وهزّ الكراسي، وتقليب الطاولات.
نعم رحل (زياد الرحباني)، لكن خشبة مسرحه ما زالت تقف شاهدة على زمن مضى، وعلى شعب عرف كيف يضحك على ألمه، ويحكي عن وطنه بأبسط الكلمات وأصدقها.