
بقلم الباحث المسرحي الدكتور: كمال زغلول
في مقالتنا السابقة، أوضحنا أن (المصريين) يؤرخون إلي نسبهم إلي آدوم (آدم عليه السلام)، وفي نفس الوقت يتعرضون إلي نوو(نوح عليه السلام)، وينتسبون إليه أيضا، ولهذا توجد نقطة هامة في التاريخ المصري، بها بعض الإبهام، تتعلق بكيفية تكوين المملكة المصرية الموحدة، وكيف كانت مصر قبل توحيد القطرين؟
وللإجابة على هذا السؤال، نعود إلي الدراسات التي كتبت حول هذا الموضوع عن (المصريين)، فنجد في موسوعة سليم حسن (ج 1) يستعرض رأى عالم الآثار (لوريه)، في أن مصر كانت مقسمة إلى أربعة أقاليم، إذ يرى أنه أتت قبائل وشعوب من بلاد لوبيا، ومن آسيا الصغرى، ومن جنوب مصر، واختلط بعضهم ببعض.
وتحاربوا وأخذت الواحدة منهم تحل مكان الأخرى، ثم تحالفوا فيما بينهم، وانتهى الأمر بأن تألفت منهم أربع طوائف عظيمة: (النسر )، و(الثعبان)، و(البوصة) و(النحلة)، ثم تألفت من النحلة والبوصة مملكة، ومن الثعبان والنسر مملكة أخرى.
وفيما بعد وفد على البلاد قوم من آسيا من طريق بلاد العرب والصومال ونزلوا نحو الشمال وتوغلوا في بلاد (المصريين) حتى الوجه القبلي، وهذا الجنس الجديد ذو المواهب العظيمة، تأصل في البلاد، وكوَّن مملكة ثالثة وهى مملكة (الصقر) بعد قرون عدة انقضت في حروب ومحالفات متتالية بين تلك الممالك الثلاثة.
تغلبت في النهاية (مملكة الصقر)، ومن ذلك العهد أصبحت تلك الممالك الثلاثة موحدة تحت سلطان صولجان واحد، وقد أصبحت المملكة الفرعونية منظمة تحت سلطان ملك واحد وهو (بر إبسن) آخر ملوك الأسرة الثانية.
وهذه الحقائق مستقاة من دراسات دقيقة للآثار العتيقة، ومن العناصر المختلفة ، التي تتألف منها ألقاب الفراعنة التي منها لقب (حور و نبتي سوت بيتي)، ويعتقد الأستاذ (لوريه) أنها شارات رمزية يقصد منها أوَّلًا طوائف القبائل الأولية، وفيما بعد رؤساء هذه الطوائف، ويرى سليم حسن، أن هذه النظرية في عرضها قد تكون صحيحة في جملتها.

أسطورة الخلق المصرية
وقد اجتهد الاستاذ (لوريه) في دراسة هذا الموضوع، وكما قال سليم حسن، أن نظريته تبدو صحيحة، ولكن الاستاذ (لوريه) سبقة العالم المؤرخ (ابن تغري بردي) الإسلامي في هذا الرأي وأوضح الكيفية التي قسمت بها مصر إلي أربع مناطق، وهذا حدث بعد طوفان نوح، الذى ذكر في البرديات المصرية، بعنوان أسطورة الخلق المصرية، وملخص هذه الأسطورة:
وفق مدرسة هليوبوليس:
نون (المحيط الأزلي:
يمثل الحالة البدائية للكون، وهو مياه أزلية لا متناهية، مظلمة، وفوضوية.
آتوم:
الإله الذي خلق نفسه من مياه نون. يمثل القوة الخلاقة الأولى التي بدأت عملية الخلق.
ظهور الربوة:
من مياه نون، ظهرت ربوة صغيرة (تلة مقدسة)، وهي أول أرض صلبة تظهر في الكون، ووقف عليها أتوم.
خلق الآلهة الأخرى:
خلق آتوم أولاده، شو (إله الهواء) وتفنوت (إلهة الرطوبة)، ثم جب (إله الأرض) ونوت (إلهة السماء) من خلال البصق والعطس، ثم تزوج (جب ونوت) وأنجبا أوزوريس، وإيزيس، وست، ونفتيس.
نظام الكون:
بعد خلق الآلهة، تم ترتيب الكون وتنظيمه، حيث فصل شو بين السماء والأرض، وشكل جب ونوت إطار الكون.
التاسوع المقدس:
تعتبر الآلهة التسعة (آتوم، شو، تفنوت، جب، نوت، أوزيريس، إيزيس، ست، ونفتيس) نواة الخلق ومركزه في مدرسة هليوبوليس.
ونجد هذه المدرسة تذكر آدوم (آدم عليه السلام، وتخلط حادث الطوفان بأن ظهوره بدء بعد الطوفان، ولكن في هيرموبولي (.. قرية الأشمونيين في مصر حاليًا يظهر نوو (نوح عليه السلام)، والمدرستان يؤكدان على حادث الطوفان مع الاختلاف والتحريف وهذا ما سوف ننفرد به في المقالات القادمة.
وقد ذكرنا في مقالات سابقة: أن مصر تكونت بعد طوفان نوح، وأن (المصريين) ذكروا حادث الطوفان من خلال ما يعرف خطأ بأسطورة الخلق والمحيط المائي الأول، وبعد الطوفان تكونت مصر من مصرايم، وأنها كانت بالفعل أربعة مناطق.

الكيفية التي قسمت بها مصر
ويكشف لنا المؤرخ (ابن تغري بردي) في كتابه (النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة) – سابقا (لوريه) – ويوضح كيف ظهرت مصر بعد طوفان نوح، والكيفية التي قسمت بها مصر إلى أربع مناطق: وسنتعرض ما ذكره هذا المؤرخ الفذ عن هذا الموضوع.
يقول (ابن تعزي): سميت مصر بعد الطوفان بمصر بن بيصر بن حام بن نوح، ويقال أن (مصر) هذا غرس الأشجار بيده فجاءت ثمارها عظيمة بحيث أنه كان يشق الأوترجة (نوع من الثمار الحمضية كالليمون والبرتقال).. نصفين لنوح يحمل البعير نصفها، وكان القثاء يومئذ أربعة عشر شبرا.
ويقال إنه أول من وضع السفن وإن سفينته كانت ثلثمائة ذراع في عرض مائة ذراع، ويقال إن مصرايم نكح امرأة من بنات الكهنة فولدت ولدا يقال له قبطيم، ونكح قبطيم بعد سبعين سنه من عمره امرأة ولدت أربعة (نفر قفطريم، وأشمون، وأتريب، وصا)، ولما حضرت مصرايم الوفاة عهد إلى ولده قبطيم.
وكان قد قسم أرض مصر بين بنيه فجعل لقفطريم من فقط إلى أسوان، ولأشمون من أشمون إلى منف ولأتريب الحوف كله ، ولصا من ناحية صا البحيرة إلى برقة، ويذكر أن مصرايم مات ولم يعبد الأصنام).
ومما سبق يتضح إلي أن (لوريه) من خلال دراسته أوضح التقسيم، ولكن الكيفية التي تكلم بها تتحدث عن هجرات أتت إلي مصر، وأشياء غريبة تخص شعوب قادمة ووافدة، ولكن غاب عن لوريه وعلماء الغرب أن شكل العالم القديم، لم يكون شعوب سورية، أو صومالية، أو عربية .. إلخ.
بل العالم القديم خاصة قبل طوفان نوح مختلف عن العالم بعد طوفان نوح، وفي المرحلتين لم يحكم على البشر بجنس، أو شعب ، وهذا الخطأ الجسيم يجعل علماء الغرب يعبثون بحضارتنا القديمة (المصرية والعراقية والعربية.. إلخ).
فجميع علماء الغرب يكيلون المؤامرات والتشكيك خاصة للحضارة المصرية القديمة، وغيرها من الحضارات الخاصة بمنطقتنا العربية، وهذه المؤامرة منذ قدوم اليونان إلي مصر وسرقة أفكار (المصريين)، ولكن اليونان نقلوا بدون فهم، وهذا ما أظهر سرقتهم وعلماء الغرب على شاكلتهم.. وفي النهاية تحية وتقدير للعالم المؤرخ الإسلامي (ابن تغري بردي).