رئيس مجلس الادارة : محمد حبوشة
رئيس التحرير : أحمد السماحي

محمود حسونة يكتب: (فيروز) و(زياد).. شموخ في الإبداع وفي الحزن

محمود حسونة يكتب: (فيروز) و(زياد).. شموخ في الإبداع وفي الحزن
رحل زياد الرحباني وترك غصة في قلب فيزوز

بقلم الكاتب الصحفي: محمود حسونة

ورث زياد الرحباني عن والدته العظيمة (فيروز) الشموخ الفني وكبرياء المبدعين واعتزاز الموهوبين، عرفنا فيروز شامخة في وقفتها على المسرح طوال رحلتها الفنية، شامخة في إحساسها العروبي، شامخة في أحزانها مهما كانت موجعة ومؤلمة، وخلال تشييع زياد وعزاؤه شاهدناها كما عرفناها، فرغم شدة الوجع لفقدان الابن البكري لم تتنازل عن شموخها، عرفنا من صورتها كيف يكون حزن الكبار.

أن تكون ابن (فيروز)، الصوت الملائكي الذي يصدح ويرافقنا في البيوت والسيارات والشوارع والمقاهي والمحال من المحيط إلى الخليج كل صباح فأنت محظوظ جداً، وأن تكون ابن عاصي الرحباني المؤسس مع شقيقه منصور المدرسة الرحبانية التي دخلت موسيقاها كل قلب عربي مصحوبة بصوت جارة الوادي فأنت أيضاً محظوظ جداً.

فالانتماء لهذه السيدة الأيقونية ولهذا الرجل المجدد، حلم الملايين ممن يتمنون أباً وأماً يتباهون بهم ويساهمون بالاسم والمكانة في تمهيد طرقهم وتحقيق نجاحاتهم. زياد الرحباني كان عكس ذلك، فهو لم يتباه يوماً بأنه ابن (فيروز) و(عاصي)، ولم يتعامل مع شهرتهما وإبداعاتهما كأب وأم بقدر ما تعامل مع كل منهما كحالة فنية خاصة.

لأنه أراد أن يكون ذاته، أن يصنع نفسه، أن يكون مختلفاً، أن يصنع مجداً مستقلاً لا ينتمي للمجد الرحباني ولا ينتسب إليه وإن تأثر به وأثر فيه بعد أن شب واتخذ الابداع طريقاً، أراد أن يكون زياد وكفى، كان لا يحب أن يتعامل معه الناس على أنه ابن سيدة الغناء أو إبن سيد الألحان، ولكنه أراد التعامل معه كمبدع مستقل.

(زياد الرحباني) يعرف جيداً قيمة أمه (فيروز)، وكيف لا وهي التي يعرف كل ناطق بالعربية وكل متذوق للموسيقى قيمتها التي تتجاوز الحدود العربية، كما يعرف أيضاً قيمة أبيه مؤلف الألحان السلسة الممتعة.

ولكنه أيضاً كان يعرف قيمة نفسه، ورث جينات الابداع من والديه ولكنه تمرد عليها وثار وغيّر في ألحان والده وكسب ثقة والدته كملحن وهو في السابعة عشرة من عمره من خلال لحن (سألوني الناس عنك سألوني) التي يغنيها النجوم في الحفلات ويغنيها العشاق والموجوعون والمثقفون ويدندن بها العامة حتى اليوم والغد وبعد بعد الغد، ومن يكسب ثقة (فيروز) يكسب ثقة جمهورها.

محمود حسونة يكتب: (فيروز) و(زياد).. شموخ في الإبداع وفي الحزن
اللقب الأمثل الذي ينطبق على (زياد الرحباني) هو (المتمرد الثائر) على كل ما حوله

بدايته كانت أدبية فلسفية

لم يقدم (زياد) نفسه وهو فتى يافع للجمهور باعتباره ابن (فيروز) و(عاصي)، ولكنه قدم نفسه كملحن وموسيقار استوعب قدرات صوت والدته ومنحه مداه في هذه الأغنية التي كشفت عن موهبة لا تشبه سواها، والتي لحنها مضطراً نتيجة مرض والده ودخوله المستشفى وحاجة والدته إليها وهي تجري بروفات مسرحية (المحطة) عام 1973.

لم تكن (سألوني الناس) أول أعمال زياد، وبدايته لم تكن موسيقية فقط بل كانت أدبية فلسفية حيث نشر وهو في الثامنة من عمره كتاباً باسم (صديقي الله)، والذي كشف عن موهبة أدبية مبكرة، وكانت أول أغنياته (ضلك حبيني يا لوزية) عام 1971.

كما قدم مبكراً مسرحيته الأولى (سهريّة) مؤلفاً وممثلاً وملحناً، ليكشف عن موهبة تتجاوز التأليف الموسيقي، بل قل مواهب اجتمعت كلها في شخص واحد ليجيد فيها ويتألق في كل منها ويبهر والديه عندما دعاهما لحضور العرض.

اللقب الأمثل الذي ينطبق على (زياد الرحباني) هو (المتمرد الثائر) على كل ما حوله وكأنه كان ينشد العيش في عالم مختلف، عالم لا يعرف النفاق ولا الانتهازية ولا الطائفية ولا الخيانة ولا ازدواجية المعايير، عالم ليس له وجود.

بدأ تمرده من البيت، على والده ووالدته بسبب خلافاتهما الأسرية، ثم على المدرسة بسبب التعامل معه على أنه ابن عاصي و(فيروز)، ثم على فن والديه والذي كان يرى ضرورة توظيفه بشكل مختلف، ثم على الوطن بما فيه من طائفية مقيتة كادت تفتته ووضعته عبر تاريخه على المحك.

ثم على الكوكب بما فيه من ظلم وسطوة للأقوياء ونهب لثروات الضعفاء واحتلال الدول، وأكثر ما أغضبه وكتب عنه هو الاحتلال الاسرائيلي لفلسطين.

محمود حسونة يكتب: (فيروز) و(زياد).. شموخ في الإبداع وفي الحزن
كان (زياد) فيلسوفاً عابراً للطائفية، مسيحي عاش وسط المسلمين خلال الحرب الأهلية

فيلسوفاً عابراً للطائفية

كان (زياد) فيلسوفاً عابراً للطائفية، مسيحي عاش وسط المسلمين خلال الحرب الأهلية، صداقاته وعلاقاته امتدت لكل الطوائف، نبذ الفساد السياسي وسخر من ملوك الطوائف واستهزأ بالظالمين حول العالم وانتقد المزيفين دينياً وسياسياً والجشعين اقتصادياً والانتهازيين بكل ألوانهم.

موسيقي لا يشبه إلا نفسه، وصحفي حر في كلمته وأديب فيلسوف له رؤيته، ومسرحي اتخذ المسرح وسيلة للتعبير عن أوجاع وطن ممزق، وشاعر متمرد على القوالب والأفكار التقليدية، وساخر من كل ما حوله، وغاضب على حال بلده وأمته.

رحل (زياد) ولن ترحل سيرته، كان يوم تشييعه وأيام عزائه، أيام حزن على أمة أحبته وآمنت بتمرده وعجزت عن التفكير بطريقته، لم يبكه لبنان وحده، ولكن بكاه كل عاشق للحرية ومؤمن بالفن والإبداع على امتداد خريطة الوطن العربي.

لم يشيعه اللبنانيون فقط ولكن شيعه كل العرب الذين تسمروا أمام الشاشات توديعاً له وتقديراً لسيرته وإجلالاً لوالدته التي رافقته في يوم التشييع وأيام العزاء وهي شامخة في حزنها أبيّة عليها دموعها مكلومة في ابنها الذي اختلفت معه وآمنت به وتوجعت من فراقه أيام وشهور وسنوات.

اكتفت بالصمت حزناً وأخفت دموعها خلف نظارتها ولكن على وجهها آلام وأوجاع عايشتها من قبل في رحيل زوجها (عاصي) ثم ابنتها (ليال) وأخيراً حبيبها (زياد) لتبدو أمام المشيعين والمتابعين عبر الشاشات كما شجر الأرز الخالد على أرض لبنان المعبّر عن حضارته الناطق بعبقريّته وجمال طبيعته.

(فيروز) ستظل عابرة للأجيال بفنها الخالد، و(زياد) سيظل عابراً للطائفية بكتاباته ومقولاته التي ملأت الفضاء الاليكتروني بعد أن تناقلها الناس كما يتناقلون أقوال الحكماء ومآثر الرموز.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.