رئيس مجلس الادارة : محمد حبوشة
رئيس التحرير : أحمد السماحي

حكايتي مع الإعلام وصناع الاعلام (17).. (الصحافة) ما زالت في دمي

الصحافة ليست مهنة نغادرها نحن… بل هي التي لا تغادرنا..!

حكايتي مع الإعلام وصناع الاعلام (17).. (الصحافة) ما زالت في دمي
في زمن كان فيه الصحفي يُولد من رحم الشارع، لا من دفاتر الأكاديميات، كنت أتنفس نبض الناس

بقلم الدكتور: إبراهيم أبوذكري

لم تكن بدايتي في (الصحافة) تشبه بدايات غيري.. لم أطرق أبواب مكاتب التحرير حالمًا بعنوان على صدر الصفحة، ولا انتظرت تكليفًا من محرر أو رئيس قسم.. كانت بدايتي مختلفة.. جاءت من الزحام، من قلب شوارع بولاق، ومن كاميرا صغيرة كنت أتنقّل بها بين الناس، لا لأصوّرهم فقط، بل لأفهمهم.

في زمن كان فيه الصحفي يُولد من رحم الشارع، لا من دفاتر الأكاديميات، كنت أتنفس نبض الناس، وأرصد تفاصيلهم الصغيرة، وأتعلّم منهم كيف تُكتب الحكاية. كنت أبحث عن زاوية لم يرها أحد، عن لحظة قد تبدو عابرة لكنها تختصر حكاية حيّ بأكمله.. صحيح أنى كنت من الملاصقين لكبار الصحفيين بحكم أنى شقيق كاتب كبير وله جولات وصولات في عالم الصحافة وكان أحيانا يطالبني بجمع معلومات مصورة لأحداث من غرائب المجتمع

وصحيح أيضا أنى كنت من عشاق كتاباته ، لكني كنت متمردا على ربط اسمي باسمه فقد كانت الكاميرا تميزني عن غيري وكانت مدخلي إلى الاستقلالية التي كانت شبه مستحيلة.. فأدمنت (الصحافة) وعندما تدخل وتجري في عروقك، لا تخرج منها… لا تنحني لعوامل الزمن، ولا تذوب تحت ضغط الانشغالات، ولا تموت حتى إن تجاهلتها.

هى ليست مجرد مهنة تمارسها، بل كيان خفي يسكنك، يرافقك في كل مشهد، ويهمس لك في كل موقف: (دوّن.. لا تترك الحكاية تمرّ)، قد تتغير الأماكن، تتبدل المهام، تتسع مجالات العمل، وتزدحم الحياة بالأدوار والمسؤوليات… لكن (الصحافة)، إذا دخلت دمك، تبقى هناك.

تسري مع نبضك، وتعود إليك كلما لمحت تفصيله لا يراها سواك، أو سمعت جملة تحمل أكثر مما قيل فيها، أو صادفت وجهاً يقول أضعاف ما ينطق به.

(الصحافة) ليست مهنة نغادرها نخن.. بل هى التي لا تغادرنا.. قد ننشغل عنها بالإنتاج أو الإدارة أو الترحال أو حتى الصمت، لكنّها تظل تطلّ من نافذة داخلنا، تُذكّرنا بأننا خلقنا لنشهد ونكتب، لنقترب من الحقيقة قدر الإمكان، ونسأل ما لا يُسأل، ونكشف ما يُخفيه التواطؤ أو النسيان.. هي مرآة حرة في زمن يتقن التزوير، وهي صوت داخلي لا يسكت، حتى لو صمت الجميع.

لقد أخذتني الدنيا إلى مجالات شتى، في الفن والإعلام والإنتاج، عرفت خلالها القنوات والنجوم والعواصم.. لكنني لم أخلع عن قلبي جلد الصحفي، ولم أنزع من روحي عدسة الكاميرا ولا نبض الشارع.. (الصحافة) ما زالت في دمي.. لا تزول، ولا تُستبدل، ولا تموت.

حكايتي مع الإعلام وصناع الاعلام (17).. (الصحافة) ما زالت في دمي
أول تحقيق صحفي نُشر باسمي كان في مجلة (صباح الخير)

أول تحقيق صحفي

أول تحقيق صحفي نُشر باسمي كان في مجلة (صباح الخير)، التي تصدر عن مؤسسة روزا ليوسف وكان تحقيقًا اجتماعيًا جريئًا بعنوان: (الملاية اللف في محلات الكوافير وفتيات الأحياء الشعبية الأصيلة بالملابس البلدية (الملايا)، وهن يدخلن محلات الكوافير ويخرجن بنات ذوات في جمالهن ينافسن بنات باريس).

لم أكن أتخيل أن أول تحقيق رغم بساطته وخفة موضوعه المجتمعي، لكنه سجل هدفا صحفيا مدويا فقد كان تحقيقًا شعبيا جماهيريا، أظهرت فيه كيف تحاول الفتاة الشعبية أن تخترق عالم الأناقة رغم الحواجز الاجتماعية والمادية.

وكيف تتحول الملاية اللف من مجرد غطاء إلى هوية.. وربما إلى تحدٍ مجتمعي التمرد على كثير من العادات التي كانت تحكم المرأة بالستينات وتحد من حركتها وطموحها.

هذا التحقيق لم يكن مجرد تجربة صحفية، بل كان أيضًا أول تأكيد أنني أمتلك زاوية نظر مختلفة، أراها من خلال عدسة الكاميرا ومن خلال نبض الشارع، ومن خلال السؤال الذي لا ينتظر إذنًا كي يُطرح.

قدّمته لمجلة (صباح الخير)، وكان ذلك في زمن كانت فيه الكلمة تُصاغ من نبض الشارع، والصورة تُلتقط من عرق الميدان، لا من خلف المكاتب أو المكيفات.

سلمت التحقيق إلى رئيس قسم التحقيقات حينها، المرحوم (عبد الله إمام)، الذي استقبلني بلطف، رغم أنني لم أكن بعدُ من كوادر المجلة، ولم أُعيَّن رسميًا فيها، بل لم يكن لي حتى مكتب أستقر فيه.

انتظرت يوم صدور المجلة وكلي لهفة، وكانت المجلة تُوزّع مساء اليوم السابق لصدورها يوم الاثنين من كل أسبوع، فلم أغمض لي جفن تلك الليلة.. وعند الفجر، كنت أترقب عربات التوزيع وهى تُلقي بالمجلات على الأرصفة.. اشتريت العدد بيدين ترتجفان، وقلب يكاد ينطق.. قلبت الصفحات واحدة تلو الأخرى.. لم أجد التحقيق!

في الصباح الباكر، كنت أول من وصل إلى مبنى روزا ليوسف.. صعدت مباشرة إلى الدور الذي يوجد فيه مكتب رئيس قسم التحقيقات (عبد الله إمام) وسألته عن السبب. نظر إليّ معتذرًا، وقال إنه (فقد) التحقيق!.. ثم سألني إن كنت أحتفظ بالمادة الصحفية.. أجبته بثقة: (كلها في ذاكرتي).

ناولني رزمة أوراق وقلما، وأشار إلى مكتب بقوله: (اجلس هنا واكتبه من جديد).. جلست وكتبته استغرق الوقت أكثر من ساعه و(عبد الله إمام) – رحمه الله عليه لم يرفع عينيه عني.

انتهيت من كتابته لكن بطريقة مختلفة، فقد تغيّر داخلي شيء ما.. حين أنهيته سلمته التحقيق، أخذ النسخة الجديدة، ثم فتح درج مكتبه، وأخرج النسخة القديمة! قارن بينهما، ثم نظر إلى مبتسمًا: (الاثنين أحلى من بعض… تحب أنشر أيهما؟).

سألته بدهشة: (ليه كل ده؟).

فقال لي بكل صراحة:

(بصراحة، لم أكن أتخيل إن دا أول تحقيق تكتبه بإديك.. وكنت أظن إن أخوك، وجيه أبوذكري هو اللي كتبه لك.. فحبيت أتأكد وشقيقي (وجيه) كان رحمة الله عليه في هذا التوقيت محقق ضربات صحفية غير مسبوقة.. خرجت من المكتب مثقلًا بالحزن والخذلان.

نعم، نُشر التحقيق، لكنه ظل بالنسبة لي تحقيقًا يتيمًا في (صباح الخير)، لم أعد بعدها إلى روزا ليوسف.. بل عدت إلى مبنى أخبار اليوم أبحث لنفسي عن مكان، وعن بداية لا يشوبها الشك.

ألم أقل أن بدايتي في (الصحافة) ليست ككل البدايات، فمن مقال عن فتاة بولاق إلى مسلسل كله حلقاته مفاجآت، تقودني دائمًا إلى أبعد مما تخيّلت، وكأن القدر كان يقول لي: (لن تسلك طريقًا ممهدًا، لكنك ستصنع طريقك بنفسك.. وأصبحت لي حكايات لم تكن كلها في بلاط صاحبة الجلالة).

حكايتي مع الإعلام وصناع الاعلام (17).. (الصحافة) ما زالت في دمي

حكايتي مع الإعلام وصناع الاعلام (17).. (الصحافة) ما زالت في دمي
مع صلاح حافظ رئيس تحرير مجلة (آخر ساعة)

(مش معقول).. باب صحفي بصورة وحقيقة

اما بدايتي الصحفية الحقيقية كانت حين انتقلت إلى مجلة (آخر ساعة) في النصف الثاني من ستينيات القرن الماضي، كانت المجلة تشهد نهضة تحريرية تتماشى مع زخم المرحلة الناصرية، التي مزجت بين الحلم القومي والطموح الاجتماعي.. وبين التقدم والتناقضات اليومية.

وكان رئيس التحرير وقتها واحدًا من ألمع الصحفيين الشبان الذين تركوا كلياتهم العلمية – وكان قد التحق بكلية الطب – ليتألق لاحقًا في بلاط صاحبة الجلالة، حيث جمع بين الدأب والموهبة، وصار من المقربين فكريًا من مشروع عبد الناصر، وإن لم يفقد حسه النقدي لم ينافسه احد من جيله بالإبداع الفكري الصحفي هو الكاتب الصحافي المتميز (صلاح حافظ).

اقترحت عليه بابًا أسبوعيًا بعنوان (مش معقول) ينشر على عمودين بطول المجلة.

كانت الفكرة تقوم على صورة واحدة وتعليق برقي، باباً يرصد مشهدًا غير مقبول أو خللًا في الخدمات أو التخطيط العمراني، أو عبثًا في التفاصيل اليومية التي لا يراها أصحاب القرار، لكنها تجرح عين المواطن وضميره.

مثلًا: (مخبز بلدي يتوسط محل توزيع أنابيب بوتاجاز وفرعًا لأحد البنوك!.. أو نقطة لتوزيع مياه في قرية نُزعت منها الحنفيات، أو شق في سور السكة الحديد تحوّل إلى معبر عشوائي للمشاة دون أي تدخل.

لاقى هذا الباب اهتمامًا واسعًا من المسؤولين وأصبح له جمهور من القراء وتحول إلي باب جماهيري، ليس فقط من القراء، بل من أساتذتي من الصحفيين أنفسهم، الذين راحوا يشاركونني فيه، يشيرون إليَّ بمواقع التصوير، وهم يكتبون التعليق بتوقيعهم واسمي على الصور، أو أكتب أنا.

الصورة لم تكن ترفًا صحفيًا، بل أصبحت أداة للرقابة الشعبية.. ساخرة، لاذعة، ولكنها صادقة.. في زمن كانت فيه الصحافة تلعب دور الشاهد والناصح، لا المعارض ولا المطبل.. كان (مش معقول) صوتًا آخر من أصوات المواطن في دولة كانت تحلم، لكنها أحيانًا تتعثر في التفاصيل الصغيرة.

هذه الحكاية لم أكن أتخيل أنها تمثل ذكاء فطري وروح المبادرة، وتُظهر كيف جمعت منذ وقت مبكر بين موهبة الصحافة، وعين المصوّر، وحسّ التاجر الشريف، وكلها اجتمعت لتصنع مني مشروع صحفي ومنتج ومبادر منذ البدايات.. وفي الوقت نفسه تقريبًا، كنت أخوض مغامرة أخرى في اتجاه مختلف تمامًا.

حكايتي مع الإعلام وصناع الاعلام (17).. (الصحافة) ما زالت في دمي
في الجامعة، كنت أتنقّل بالكاميرا بين الطلبة في أوقات الاستراحة والهرج والمرج

الصورة.. بابي إلى الناس

من باب (مش معقول) الذي كنت أستخدم فيه الصورة لتسليط الضوء على ما لا يُعقل في الحياة العامة، انتقلت إلى نوع آخر من التصوير.. أكثر حيوية، وأقرب إلى الناس.

في الجامعة، كنت أتنقّل بالكاميرا بين الطلبة في أوقات الاستراحة والهرج والمرج، أو وهم على درجات المدرج أو الدرج، ألتقط لهم صورًا عفوية تُخلّد لحظاتهم اليومية.

لاحظت أن كثيرين من زملائي كانوا يتوقفون أمام الصور في مجلة الحائط، يبحثون عن وجوههم، أو عن لحظة تخصهم.. فخطرت لي فكرة بسيطة، لكنها أثمرت كثيرًا: خصّصت لوحة ثابتة للصور، واتفقت مع أحد السُعاة أن يتولى بيع هذه الصور للطلبة بحسب أرقامها.

كان الطالب يطلب صورته المفضلة، أو صورة صديق له، فنقوم بطباعتها له بالعدد المطلوب، بمقابل مادي به هامش ربح بسيط.. لكنه كان يضمن لي دخلاً شهريًا محترمًا.

وفي الوقت ذاته، وجدت بابًا آخر يُفتح من حيث لا أتوقع.. كان أحد أصدقاء شقيقي يشرف على صفحة المجتمع في المجلة، فاتفقنا معا أن أذهب إلى أفراح النجوم وكبار الشخصيات وهو يقوم بتسليمها الي أصحاب الفرح، ممن يوجهون الدعوة لمحرري الفن والمجتمع.

كنت أذهب كمصور هاوٍ في الظاهر، لكنني أتحول داخل الفرح إلى عين صحفية، تنتظر اللحظة التي يتوقف فيها المصورون الرسميون – بعد أن ينفد فيلم الكاميرا – لأبدأ أنا تصوير الفرح من زوايا مختلفة، كأنني أُعدّ تحقيقًا صحفيًا مصورًا، لا مجرد تغطية سطحية.

هكذا، جمعت بين المجتمع والجامعة، بين عدسة تلتقط الواقع وعدسة تصطاد الوجوه اللامعة، وخرجت من كليهما بمكاسب عديدة: علمتني الصورة أن لكل مشهد قصة، ولكل لقطة فرصة، ولكل فكرة باب رزق إن تعاملت معها بذكاء وشغف.

تلك المكاسب لم تكن فقط مالية ساعدتني على مواصلة دراستي، بل كانت دروسًا مبكرة في أن (الصحافة) لا تدرَّس فقط في الكلية، بل تُعاش.. بكل الحواس.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.