رئيس مجلس الادارة : محمد حبوشة
رئيس التحرير : أحمد السماحي

حين تبكي الجماعة الشعبية: (زياد الرحباني).. ليس حالة استثنائية

حين تبكي الجماعة الشعبية: (زياد الرحباني).. ليس حالة استثنائية
بعضهم أكد بيقين (زياد الرحباني)،هو مجرد فنان ككثيرين من أبناء جيله .. له ما له وعليه ما عليه
حين تبكي الجماعة الشعبية: (زياد الرحباني).. ليس حالة استثنائية
محمد الروبي

بقلم الناقد الفني: محمد الروبي

لاحظت في السويعات الأخيرة المنصرمة ظهور نغمة – بدأت على استحياء لكنني أعرف بالخبرة أنها ستكبر مع الأيام كما كرة ثلج – تتساءل في سخرية حول ما وصفه البعض بالمبالغة في رثاء (زياد الرحباني)!

 بل إن بعضهم أكد بيقين (زياد الرحباني)،هو مجرد فنان ككثيرين من أبناء جيله .. له ما له وعليه ما عليه.

من هنا تحديدا جاء دافعي لكتابة هذا الرأي – الذي لا ألزم به أحدا – لعله يكون محاولة لتفسير ما وصفه أولئك بـ (المبالغة)، ولعله من ناحية أخرى يساهم في إيقاف (كرة الثلج) التي بدأت بوادر تكوينها تظهر.. لا بهدف اسكات الرأي المخالف (كما سيتهمنا البعض كالعادة)، ولكن لتأمل ما حدث وما يحدث.

بداية أنا مؤمن تمامًا بأن الجماعة الشعبية حين تُجمع على الحزن، أو على التبجيل، أو على إعلاء شأن شخصٍ ما، فإنها لا تُجامل، ولا تبالغ، ولا تخضع لحسابات السلطة أو الإعلام. الجماعة الشعبية لا تُضطر. وإذا اجتمعت على شيء، فاعلم أنه يستحق.

هذا الإيمان ليس وليد لحظة انفعال، بل هو نابع من يقين تشكّل عبر التاريخ.. وتعالوا نتأمل معا  نماذج إنسانية تكرر معها الأمر نفسه في مراحل مختلفة من عمر هذا الوطن.

 لنسأل أنفسنا – مثلا –  لماذا اختارت الجماعة الشعبية الظاهر بيبرس لتنسج حوله سيرةً ملحمية، وترفعه إلى ما يشبه الأسطورة.

ولماذا لم تفعل الشيء نفسه مع رفيقه (سيف الدين قطز)؟ مع أنه هو من انتصر في عين جالوت، وحرّر الشام من المغول، وقاد أولى المعارك المفصلية؟.. الإجابة هنا ستكون قاصرة إذا ما أعتمدت على النتائج  العسكرية وحدها.

فقطز – في ظني – انتصر ثم اختفى.. لم يعش بين الناس طويلًا، ولم (يتكرّر) حضوره في الوجدان الشعبي، أما بيبرس، فبقيّ حكم، وواجه، وتحايل، وسار في الأزقّة بعد المعارك.. فاختارته الجماعة الشعبية لأنه عاش في ذاكرتها، لا فقط في كتبها.

حين تبكي الجماعة الشعبية: (زياد الرحباني).. ليس حالة استثنائية
جنازة جمال عبد الناصر

جمال عبد الناصر

وعلينا نحن – لا الجماعة الشعبية – أن نجتهد في تفسير هذا الأمر.. وأن نتسائل بجدية تليق بالبحث العلمي عن (لماذا خلدت الجماعة الشعبية بيبرس وغفرت له كل أخطاءه وأبقت عليه أيقونة ترفعها كلما ضاق بها الحال وافتقدت الرمز).

الأمر نفسه تكرر – في العصر الحديث – مع (جمال عبد الناصر)، الذي خرجت الجماهير تودعه في جنازة هى واحدة من أكبر الجنازات في القرن العشرين إذ لم تكن أكبرها على الإطلاق.

لم يكن الحزن على ناصر حينها – ولم يزل –  حزنا سياسيا، بل شعبيا خالصا.

بكاه البسطاء، الفقراء، الموظفون، العمال، الفلاحون، باعة الأرصفة، نساء الحواري، أطفال الأزقة.

لم يبكوه لأنه لم يخطىء، بل لأنهم شعروا بأنه كان (واحدا منهم)، أو على الأقل كان يحاول أن يكون كذلك.. وهو ما لم يتكرر مع من جاءوا من بعده.

حين تبكي الجماعة الشعبية: (زياد الرحباني).. ليس حالة استثنائية
جنازة عبد الحليم حافظ

عبد الحليم حافظ

في مجال الفنون كذلك ستجد أكثر من مثال، فحين مات (عبد الحليم حافظ)، لم يُدفن فنان، بل ودّعت الجماهير جزءًا من نفسها.. فلم يكن (عبد الحليم) بالنسبة لهم صوتًا جميلًا فقط، بل كان زمنًا بكامله، وأحلامًا مؤجلة، وحكايات حب لم تكتمل.

مشهد جنازته الذي حطم الأرقام لم يكن منظّمًا، بل كان انفجارًا عاطفيًا تلقائيًا.. لم يكن الحزن عليه (موجّهًا)،  بل عميقًا، لأن الناس رأت فيه امتدادًا لها.

حين تبكي الجماعة الشعبية: (زياد الرحباني).. ليس حالة استثنائية
جنازة سعاد حسني
حين تبكي الجماعة الشعبية: (زياد الرحباني).. ليس حالة استثنائية
تحوّل الحزن الشعبي إلى ما يشبه التحقيق الموازي في رحيل سعاد حسني

سعاد حسني

وكذلك، حين رحلت (سعاد حسني)، تحوّل الحزن الشعبي إلى ما يشبه التحقيق الموازي.. الجماعة الشعبية لم تكتفِ بنعيٍ رسمي ولا خبرٍ في نشرة التاسعة.. بل سألوا: لماذا ماتت؟ كيف؟ مَن خذلها؟ لأنهم لم يروا فيها مجرد ممثلة، بل أختًا، وابنةً، وأملًا مكسورًا.

و(صلاح جاهين) لم يكن سياسيًا، ولا قائدًا عسكريًا، كان يكتب بالعامية، يرسم الكاريكاتير، يغنّي مع الأطفال، ويبكي في صمت.

ومع ذلك، لم تتركه الجماعة الشعبية. رددوا كلماته، وتوارثوا رباعياته، ورددوا أغنياته الوطنية كما يرددون أهازيجهم. لأنهم وجدوا فيه شيئًا لا يُكتب، بل يُعاش.

حين تبكي الجماعة الشعبية: (زياد الرحباني).. ليس حالة استثنائية
لم يكن صوت النخبة، بل ضمير الشارع، ووجع الفقراء، وغضب المهمّشين

صوت النخبة، وضمير الشارع

ثم جاء (زياد الرحباني).. ابن (فيروز وعاصي) في الأوراق الرسمية، وابن الناس في الحقيقة.. قال ما لم يُقل، وسخر من كل شيء دون أن يفقد حب الناس.

لم يكن صوت النخبة، بل ضمير الشارع، ووجع الفقراء، وغضب المهمّشين، وسخرية من فهموا اللعبة ولم ينسحبوا، بل ضحكوا في وجهها.

ما أريد قوله أن الجماعة الشعبية لا تُضطر للحب، ولا تُجبر على البكاء.. هى تفعل ما تشعر به، وتُخلد مَن يُشبهها، وتبكي مَن قال عنها ما لم تقوَ على قوله.

ولعل أعظم ما في (زياد الرحباني) أنه لم يسعَ يومًا إلى أن يكون (رمزًا) ولا حمّل نفسه رسالة، ولا ادّعى النبوّة الفنية أو الثورية.. كان فقط (زياد الرحباني)، كما هو: مشاكسًا، شفيفًا، متناقضًا، شديد الذكاء، سريع السأم، حادًّا في الحبّ كما في الكراهية.. لكنه في كل ذلك، ظلّ صادقًا على نحوٍ نادر.

وهذا بالضبط ما تبرع فيه الجماعة الشعبية: أن تلتقط الصدق.. لا تهتم كثيرًا بالألقاب، ولا تعبأ بمن تصدر غلاف المجلة أو شاشة النشرة، بل تميل بفطرتها إلى من يُشبهها، إلى من يُعبّر عنها، إلى من يضحك ويبكي ويشتم ويحبّ مثلها، دون رتوش.

مرة أخرى وليست أخيرة، إذا ما اتفقت الجماعة الشعبية على شخص، وحزنت عليه كل هذا الحزن، فاعلم أنه كان يستحق.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.