
بقلم المخرج المسرحي الكبير: عصام السيد
إحدى آفات جماعتنا في (الثقافة) المصرية أنها تتكلم أحيانا دون خلفية كافية من المعلومات ، فتراها تتحيز لرأى أو موقف دون ان تعرف دوافعه و خلفياته ، او معلومات أساسية عنه ، هذا ما حدث عندما صدر التشكيل الجديد للمجلس الأعلى لـ (الثقافة).
فلقد هاجم كثيرون هذا التشكيل على اعتبار (سن أعضائه) وإن بعضهم تجاوز الثمانين، و لم يكلف أحد السادة المهاجمين نفسه أن يبحث عن (أهداف) ذلك المجلس أو (أهميته) في حياتنا الثقافية، ولم يناقش أحد (دوره) وهل يؤديه أم لا ؟ أو (ضرورة) وجوده من عدمه.
بل إن معظم المهاجمين لم يلحظوا أن هجومهم انصب على أعضاء ليسوا جدد على المجلس، وإنما هم أعضاء قدامى، ولكن الصحافة وضعتهم في مقدمة الخبر لأنهم الأكثر شهرة، و لم تلتفت إلى الأعضاء الجدد، و كان الأولى بهم أن يسألوا: ماذا قدم المجلس القديم في ضوء ما تسمح به اختصاصاته؟
ولكى نعرف ما هو المجلس الأعلى لـ (الثقافة) ومدى أهميته وبالتالى نكتشف لماذا يكون تشكيله على هذا النحو، علينا أن نتتبع قصته منذ البداية، وبالتحديد منذ عام 1956 عندما قررت ثورة يوليو في إطار اهتمامها بالثقافة أن (تنسق الجهود الحكومية والأهلية فى ميادين الفنون والآداب).
فأصدرت قرارا بإنشاء المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب، كهيئة مستقلة ملحقة بمجلس الوزراء، وبعد عامين أصبح المجلس مختصاً كذلك برعاية العلوم الاجتماعية.. وعلى مدى ما يقرب من ربع قرن ظل المجلس الأعلى للفنون والآداب والعلوم الاجتماعية يمارس دوره فى الحياة الثقافية والفكرية فى مصر.
وكان المجلس بهذه الصورة هو الأول من نوعه على المستوى العربى؛ الأمر الذى دفع العديد من الأقطار العربية إلى أن تحذو حذو مصر وتشكل مجالس مشابهة.
و تقول الأوراق الرسمية أنه في أعقاب التحولات السياسية الكبرى في مصر (مثل حرب أكتوبر 1973 والانفتاح الاقتصادي)، كان من الضروري إعادة النظر في بنية مؤسسة (الثقافة) الرسمية وتطويرها بما يواكب المرحلة.

المجلس الأعلى للثقافة
أما حقيقة الأمر فكانت أن عصر السادات يسعى الى التخلص من إرث عبد الناصر الاشتراكى الذى تسيطر فيه الدولة على وسائل الإنتاج بما فيها الفنون، لذا صارت وزارة (الثقافة): (وزارة دولة) في تمهيد ليحل محلها المجلس الأعلى للثقافة، كما تم مع الاعلام بإنشاء اتحاد الإذاعة و التليفزيون.
توطئة لدخول القنوات الخاصة ، و أصبحت وزارة الشباب (مجلس أعلى للشباب و الرياضة).. وهكذا.
ولهذا صدر القانون رقم 150 لسنة 1980، بتشكيل المجلس الأعلى للثقافة ليحل محل (المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب والعلوم الاجتماعية)، ولكن وفاة السادات جاءت لتوقف هذا المخطط، و بهدوء شديد أخذت القيادة الجديدة تصلح أخطاء (انفتاح السداح مداح) وهى تدرك أنه لا يجوز أن نترك كل شيئ للقطاع الخاص.
ولكن إصلاحها لم يكن جذريا فقد قررت أن تمسك العصا من المنتصف.. وهكذا عادت وزارة (الثقافة) في حين ظل المجلس الأعلى موجودا، والاثنان لهما نفس المهام وهى: وضع الاستراتيجية الثقافية العامة لمصر، والتنسيق بين الهيئات والجهات الثقافية المختلفة لضمان انسجام السياسات الثقافية.
وتدعيم النشر للأعمال الإبداعية الجادة، وإتاحة الفرص للمبدعين الشباب (حسب قانون إنشاء المجلس).
ولحل تلك الازدواجية قيل أن (المجلس شُكّل ليكون مظلة حقيقية للحوار بين المفكرين والمثقفين، ويدعم حرية الرأي والإبداع داخل إطار مؤسسي منظم)، ليصبح العقل المخطط للسياسة الثقافية فى مصر من خلال لجانه التى تبلغ ثمانياً وعشرين لجنة، والتى تضم نخبة من المثقفين والمبدعين المصريين من مختلف الأجيال والاتجاهات.
وأن فكرة المجلس جاءت لتشمل أيضًا البُعد الدولي، من خلال دعم الترجمة، والانفتاح على الثقافات العالمية، والتعاون مع المؤسسات الثقافية الأجنبية.. كما أسندت الى المجلس مهمة تنظيم وإدارة جوائز الدولة في الفنون والآداب والعلوم الاجتماعية (النيل، التقديرية، التفوق، التشجيعية)، لضمان نزاهتها وفاعليتها في دعم الإبداع.
و في عصر الوزير الفنان (فاروق حسني) تم تقليص صلاحيات المجلس، فانتزعت منه جهات كانت تابعة له مثل (البيت الفني للمسرح، والبيت الفني للفنون الشعبية، والمركز القومى للمسرح، والمركز القومى للسينما ليتم تجميعها في (قطاع الإنتاج الثقافي).

الدكتور (جابر عصفور)
ولكن المجلس بفضل قيادة واحد من أكبر مثقفينا هو الدكتور (جابر عصفور) استطاع أن يمثل منصة للحوار بين المثقفين، وصوتًا للتنوع والاختلاف في الرأي عن طريق تنظيم ندوات، مؤتمرات، ملتقيات فكرية وأدبية حول القضايا الثقافية الراهنة، و يشارك في الفعاليات والمعارض والمؤتمرات الثقافية الدولية.
وأن يتحقق حلم (الدكتور عصفور) بإعادة عصر (رفاعة الطهطاوي) بإنشاء المركز القومى للترجمة الذي يترجم وينشر كتبًا متنوعة في الفكر، التاريخ، الأدب، العلوم الاجتماعية وغيرها، و يدعم التبادل الثقافي مع الدول الأخرى من خلال الترجمة وبرامج التعاون.
ولكن بعض المثقفين كانوا يرون في المجلس بكل لجانه (مجرد مكلمة) لأن آراءه استشارية فقط ولا يملك تنفيذها ولا محاسبة الجهة التنفيذية (وزارة الثقافة)، فكم من صدامات تمت بين لجان بسبب توصياتها التي لم تنفذ و بين جهات تنفيذية في الوزارة، برغم تمثيل تلك الجهات في اللجان.
ومن ضمن الوقائع الطريفة التي عاصرتها ما حدث في (لجنة المسرح) في فترة رئاسة أستاذنا الدكتور (فوزى فهمي) لها في الأعوام السابقة على ثورة يناير، حيث قامت اللجنة بوضع تصور لتنظيم وتطوير العمل في مسارح القطاع العام بعد دراسات مستفيضة بذلت فيها جهدا كبيرا.
وشارك فيها أساتذة المسرح والعاملين فيه، لنجد أن السيد وزير الثقافة قد قام بتعيين احد الفنانين مستشارا له لا يعرف عن مسرح القطاع العام شيئا، وأن هذا المستشار قد وضع ورقة لتنظيم المسارح على عكس ما توصلت لها دراسات لجنة المسرح، فثارت اللجنة، لأنها اكتشفت أن أوراقها و دراساتها و كل الجهود التي بذلتها قابعة في درج أحد معاونى الوزير ولم تصل إليه!
ثم جاءت ثورة يناير وتلتها ثورة 30 يونيو وبين الثورتين جرت مياه كثيرة وارتفع الموج فيها، ووسط تلك الأمواج كانت وزارة (الثقافة) تتخبط و كأنها توشك على الغرق، فالأخوان المسلمين خططوا للاستيلاء عليها، بايقاف النشاط فى معظم قصور (الثقافة) إلا الندوات الدينية وتم تحويل بعضها لمراكز توزيع خبز.. وظهرت دعاوى لتفكيك الوزارة قادتها إحدى منظمات التمويل الأجنبى.

(الثقافة) مش وزارة
حيث نشرت تلك المنظمة ملصقات مكتوب عليها (الثقافة) مش وزارة، (الثقافة) شارع وحارة، و تم تعليقها بالشوارع حتى على حوائط الوزارة نفسها، ثم استضافت لجنة الثقافة بمجلس نواب الإخوان بعض أفراد من (المتمولين) ليشرحوا كيف سيتم التفكيك، وتزامنت مع الدعوة وقفات احتجاجية أمام بعض المنشآت تطالب بتسليمها لأفراد أو لتكوينات خاصة لإدارتها خارج سلطة الوزارة.
و على الضفة الأخرى كانت هناك أسباب موضوعية يرتكن إليها المثقفون المطالبون ببقاء الوزارة أولها: نسبة الأمية الضخمة التى يعانى منها شعبنا والتى اقتربت من 30 %، و أن ترك امر الثقافة للقطاع الخاص تقليدا للغرب أمر محفوف بالمخاطر.
ففى تلك الدول هناك مجتمع مدنى قادر على تدعيم (الثقافة) ويعرف أهميتها وضرورتها، وهناك طبقة وسطى قوية تستطيع أن تقود عملية التثقيف والتثاقف والتنشئة الاجتماعية.
وبعد ثورة 30 يونيو تم حسم أمر: هل تبقى الوزارة أم لا؟ من خلال (مؤتمر ثقافة مصر في المواجهة) الذى عقده المثقفون دون تدخل من الوزارة، وصدرت عنه خريطة عمل ثقافية أصروا على أنها (قرارات وليست توصيات)، لكنها فيما بعد وضعت هي أيضا في الادراج !!
وفي عام 2017 صدر القانون 138 ليعيد تنظيم المجلس الأعلى للثقافة – وهو القانون الساري حتى الآن – ليحدث تغيرات عدة في مهام المجلس.
وللحديث بقية…