

بقلم الكاتب الصحفي: رسمى فتح الله
التمثيل ليس فقط أن تقول جملة بإحكام، أو أن تنال بطولة بملامح جذابة، أو تُسلَّط عليك أضواء الحوارات.. التمثيل، أحيانًا، أن تكتفي بأن تكون في الخلف، صامتًا، ساكنًا، كمن يحرس الذاكرة من النسيان مثل الفنان الراحل (مطاوع عويس).
في زوايا الشاشة القديمة، بين أصوات الأبيض والأسود، كان هناك رجل لا يتكلم كثيرًا، لكنه حاضر دائمًا.
رجل، كلما دخل مشهدًا، توازنت الصورة.
وكلما خرج، اختلّ الفراغ.
اسمه: (مطاوع عويس).
لكننا لم نكن نعرفه باسم.
كنا نعرفه بوجه.
ذلك الوجه الذي ظهر أكثر من أي نجم، ومرّ في خلفية آلاف المشاهد، دون أن يقول (أنا هنا).. مع ذلك، لم يغب.
ولد (مطاوع عويس) في السادس من أغسطس عام 1929.
ولد في زمن لا يُدرّب فيه أحدٌ أبناءه على الحلم، بل على البقاء.
فجاء إلى السينما لا باحثًا عن نجومية، ولا شهرة، ولا عظمة فنية…
جاء كمن يبحث عن رغيف.
لكنه وجد نفسه جزءًا من شيء أكبر.
أصبح أحد (البُناة السريين) للسينما.
بدأ رحلة (مطاوع عويس). في الأربعينات، في أفلام لم يكن لها اسمٌ بعد، فقط صورة، وكاميرا، ومشهد يتكرر.

لم يكن مجرد (كومبارس)
منذ البداية، لم يُسند إليه دورٌ رئيسي، ولم يتعلّق به حوار.
كان يدخل إلى الكادر، يؤدي لقطة، يخرج، ليعود إلى كادر آخر في بلاتوه آخر، في حي آخر، في يومٍ آخر.
لكن العجيب.. أنه لم يكن مجرد (كومبارس).
كان روحًا تمشي.
قالها يومًا بفخر، دون أن يهتز له جفن:
(أنا نجم… ومخرج كمان).
ضحكوا؟
نعم.
لكنهم، في قرارة أنفسهم، كانوا يعرفون أنه صادق.
فهو لم يكن يمثل (دورًا)، بل يمثل (حالة).
(مطاوع عويس) كان المخبر الذي لا يتكلم، لكنه يراقب.
الصعيدي الذي لا يرفع سلاحًا، لكنه يملأ المكان رهبة.
البائع الذي لا يبيع شيئًا، لكنه يبيع للمشاهد وهم الواقعية.
ظهوره كان سهلًا.. لكن غيابه كان صعبًا.
لا يُشعرك بحضوره، لكنه يُربك المشهد إن لم يكن موجودًا.
في أحد المشاهد الشهيرة، يقف خلف (فريد شوقي)، عابسًا، ساكتًا، لا يقترب ولا يبتعد.. مجرد ظلّ.. لكنك، كمتفرج، لا تستطيع أن تنزع نظرك عنه.
ربما لأننا في أعماقنا، نحب هؤلاء الذين لا يتكلمون كثيرًا، لكن حضورهم أقوى من الصوت.
(مطاوع عويس).. كان أحد هؤلاء.
دخل في أكثر من ألف فيلم، وتحوّل وجهه إلى كود بصري للسينما المصرية الكلاسيكية.. حتى أن البعض قال:
(لا يمكن أن تشاهد فيلمًا مصريًا قديمًا، دون أن تصادف وجه (مطاوع عويس)
لم يكن له أجر كبير.
لم يكن له اسم على التتر كالنجوم .
لم يكن له غرفة خاصة أو ملابس مصممة.
لكنه كان له شيء آخر.. الصبر.
ذلك الصبر الذي جعله يظل واقفًا في الخلف ستين عامًا، دون أن يتذمر، أو يطالب، أو يترك الصورة.
لماذا؟
لأنه، ببساطة، أحب السينما كما لم يحبها أحد.
قال ذات مرة في فيلم وثائقي عنه:

أنا كنت هناك
(أنا اشتغلت مع أنور وجدي، وفريد شوقي، وشكري سرحان.. وفريد شوقى أنا كنت هناك).. ولك أن تتأمل في جملة (أنا كنت هناك)، كأن كل ما يريده هذا الرجل، أن يقول إنه مرّ ذات يوم من الشاشة.
وفي 2015، رحل (مطاوع عويس).في صمت، كما عاش.
لم تكتب عنه الصحف أكثر من سطر.
لم ينعه النجوم.
لم تُعلَن جنازته في نقابة.
لكن بعد رحيله بعامين، أضاءت الكاميرا عليه أخيرًا.
خرج له صوت.
خرج له اسم.
المخرج الشاب (محمد زيدان) قرر أن يعيد الاعتبار لهذا الظل، وصوّر عنه فيلمًا وثائقيًا بعنوان:
(عندي صورة.. الفيلم رقم 1001 في حياة (مطاوع عويس).
وفي هذا الفيلم، ظهر (مطاوع عويس) مترددًا، خجولًا، لا يجيد الحديث أمام الكاميرا.. مع أنه قضى عمره واقفًا أمامها.
كان كمن يحاول تذكُّر نفسه.
يسأله زيدان:
ليه فضلت طول حياتك في الكواليس؟
فيقول ببساطة:
(أنا كنت باحب أكون في الصورة… حتى لو من بعيد).
يبدأ الفيلم وكأنه رحلة نبش في ذاكرة مغبرة.
(مطاوع عويس) جالس في شقته المتواضعة، يفرش أمام الكاميرا ألبومًا متهالكًا، ويبدأ يُريهم الصور:
(دي مع فاتن حمامة)..
(دي يوم ما كنت واقف ورا فريد شوقي)..
(ودي كنت باكل فول جنب شكري سرحان)..
صوره مع الكبار كانت كنوزه.
كان يحتفظ بها، لا ليفاخر، بل لأنه كان يراها دليله على الوجود.
على أنه لم يكن وهمًا، ولا عابرًا.

وقفوا دومًا في الظلال
الفيلم لم يكن مجرد تسجيل لحياة (مطاوع عويس)، بل تصحيح لمسار.
أعاد تسليط الضوء على هؤلاء الذين وقفوا دومًا في الظلال، كي يضيء المشهد.
نال الفيلم جوائز عديدة، واعتبره النقاد (تحية إلى الجنود المجهولين للسينما).
لكن الأهم.. أن الفيلم أعاد لعطية صورته.
التي ظل طوال عمره يبحث عنها.
(عندي صورة)..
هكذا سمّى الفيلم..
وهكذا كانت قضيته..
كان يريد أن يقول:
(أنا مش بطلب بطولة، ولا جائزة… أنا بس عايز صورتي ترجع.
مشهد لا يُنسى في نهاية الوثائقي:
يجلس (مطاوع عويس) في صمت، ينظر إلى الصور، ثم يهمس:
(أنا ما كنتش كومبارس.. أنا كنت في كل حتة).
وهذا صحيح.
(مطاوع عويس).لم يكن دورًا، بل نسيجًا.
كان جزءًا من تكوين السينما المصرية.
عندما ننظر إلى تاريخ الفن السابع في مصر، سنجد أسماء لامعة، وأخرى لامعة أكثر.. لكننا سنجد في الزاوية، بعيون حزينة، ووجه متعب، رجلاً اسمه (مطاوع عويس).

عاش عمره واقفًا
رجلٌ لم يطالب بحقه.
بل عاش عمره واقفًا، في الخلف، كي لا يسقط الكادر.
في الحقيقة، لا أحد يمكنه تعليم هذا النوع من التمثيل.
تمثيل بلا صوت.
بلا جملة.
بلا حتى سكريبت.
فقط تمثيل.. بالقلب.
(مطاوع عويس) كان يفهم المشهد من نظرة.
يعرف متى يقف، متى ينظر، متى يمرّ.
وكان يرضى أن يُعاد المشهد عشرين مرة، دون أن يسأل (ليه؟).
كان يحب السينما كأنها دين.
وكان يقف خلف الكاميرا كمن يُقيم صلاة.
الآن، وبعد مرور سنوات على وفاته، لا يزال وجهه يظهر في كل فيلم قديم نشاهده.
وفي كل مرة، نلتفت إليه، ونقول:
(هو ده.. (مطاوع عويس).
ثم نبتسم، في صمت، مثلما كان يبتسم هو.
ونمرّ بالمشهد، تمامًا كما مرّ هو.. من الخلف.. لكن ببصمة لا تُنسى.