
بقلم المستشار: محمود عطية *
تعليقاً علي عبارة انتشرت في الفضائيات مؤخرا لنائب حذفت من المضبطة، قال: (الراقصات تأتين من الخارج تشتهرن في مصر وعلماء مصر يفرون الي الخارج)، في زمنٍ اختلطت فيه الأدوار وتكسّرت فيه الحدود بين السياسي والفنان، بين (الإعلامي) والمسؤول، وبين التهريج والحكم، تحولت الساحة المصرية إلى عرض مسرحي طويل، بلا جمهور مهتم، وبلا نهاية مرتقبة.
العرض لا تُكلف الدولة بإعداده كثيرًا، فالنص محفوظ، والممثلون معروفون، والديكور متكرر: أزمة تحدث، شاشات تشتعل، (الإعلامي) مذيع يشهق، ثم يخرج علينا أحدهم ليشير فورًا إلى جماعة الإخوان باعتبارها الجاني الخفي، المتخفي، الخارق الذي لا يشيخ ولا يُقهر.
نحن أمام سوبرمان إرهابي، يقدر يقطع كهربا، يغرق مترو، يتسبب في سقوط سقف فصل، ويُعطل المرور في توقيت ذروة الصيف، يحرق سنترال يلقي زيت علي طريق هذه الكوميديا السوداء أصبحت محل تندر العامة، الذين حفظوا النغمة، ورددوا السطر قبل أن يُقال: (أكيد الإخوان).
وسواء احترق مصنع أو غرق طفل أو وقع كوبري، الاتهام من جانب (الإعلامي) جاهز وكأننا نعيش داخل حلقة من مسلسل بوليسي، كُتب رد فعله قبل أن تقع الجريمة.
لكن وسط هذا العبث المتكرر، خرجت إشاعة كانت كفيلة بإثارة ضجة من نوع مختلف: الدولة ستمنع ترشح العائلات لمجلس الشيوخ، لا أب وابنه، لا خال ولا عم، لا أخت ولا جارة العائلة القديمة.. ضحك الناس، ليس لأنهم صدقوا الإشاعة، بل لأنهم طالما بكوا من هذا الواقع المُر.
المجالس النيابية تحولت في السنوات الأخيرة إلى أفراح عائلية مغلقة، يجلس فيها الآباء إلى جوار الأبناء، ويتبادلون التصويت وكأنهم يوزعون علب كحك.. فإذا صحّت هذه الإشاعة من قبل (الإعلامي)، فربما كان ذلك تلميحًا بأن الدولة ما زالت تسمع، ولو على استحياء، لأن البرلمان بصيغته الحالية بلا صلاحيات حقيقية ولا وزن تشريعي فعلي.

تحول إلى ديكور سياسي
مجلس الشيوخ نفسه تحول إلى ديكور سياسي، غرفة بلا نوافذ أو صوت، تُكمّل الصورة الشكلية لنظام يفضّل التماثيل على البشر.
وفي المقابل، لم تتوقّف ماكينة القوانين.. في الشهور الأخيرة، مرّر مجلس النواب ما يكفي لكتابة مجلد سميك بعنوان (كيف تغضب الشعب في 100 قانون أو أقل)، رسوم جديدة، ضرائب غير مفهومة، قرارات اقتصادية تُعلن كأنها هدايا رأس السنة، بينما هى في حقيقتها كوابيس ضريبية تحاصر المواطن من كل الجهات.
ومع كل قانون جديد، يعلو تصفيق (الإعلامي) والنواب وكأنهم في حفلة تنكرية، لا جلسة تشريع..لا اعتراض يُسجل، ولا نقاش حقيقي يُذاع، فقط موافقة بالإجماع، وتصريحات من عينة (الشعب واعي ومستعد يتحمل)، وكأن هذا الشعب يمتلك مخزونًا سريًا من الطاقة والصبر لا ينضب.
الواقع يقول غير ذلك، الغضب الشعبي في الشارع، على الإنترنت، في البيوت، وحتى في عيون الأطفال الذين يحفظون الآن أسماء الضرائب كما كانوا يحفظون أسماء أفلام الكارتون.
الشعب أصابه الملل والإحباط وعدم الثقه في بلده، وهذا مكن الخطر، ويأتي من يطلب من الشعب دعم بلده أمام المخاطر، وأقول له كان زمان هذه الروح.. أما الآن فالشعب مش طايق نفسه ويقول: (أنا مالي لأنه ضاع الانتماء بشكل مخيف).
وفي هذا الجو المُشبع بالقهر الاقتصادي و(الإعلامي) الموجّه، يبرز سؤال صارخ يتهامسه الجميع: لماذا لم يعد الشعب يثق في أي تصريح يصدر من مسؤول في الدولة؟، لماذا أصبحت كل جملة رسمية تُقابل إما بسخرية، أو بكلمة (أكيد بيخبوا حاجة) أو بأسوأ ما يمكن أن يواجه به مسؤول: اللامبالاة؟
السبب ببساطة أن الواقع كذّب التصريحات مرة تلو الأخرى.. لا أحد نسي حين قيل إن (الجنيه قوي) ثم انهار.. أو حين وعد وزير بأن الأسعار ستنخفض، فارتفعت.
المواطن اختبر بنفسه أن تصريحات الحكومة هى مجرد مادة أولية لصناعة النكات والكوميكس، لا لطمأنته.. وصار كل مؤتمر صحفي مادة جاهزة لإعادة التمثيل على (تيك توك)، أو (فيسبوك)، ليس احترامًا بل سخرية مريرة ممن يتحدثون وكأنهم يقطنون في سويسرا.
وفي وسط هذه الحالة من الانفصال التام عن الناس، يطل علينا نجم من نجوم المرحلة: وزير البرلمان.. الرجل الذي من فرط ثقته في نفسه يبدو وكأنه يُخاطب شعبًا آخر، أو يمارس خطابة في قاعة فارغة.

طاولة القرارات الكبرى
يُصرح دومًا أن (الشعب لا يفهم) وأن (الدولة ترى أبعد)، وأن (القرارات ليست للمزايدة)، ويكاد يقول إن البرلمان لا يحتاج إلى الناس أصلًا، فهم مجرد ضيوف غير مدعوين على طاولة القرارات الكبرى.
مرة يتحدث عن تمرير قانون بنسبة 100٪ وكأنه يُباهي بحصة حفظ وليس بمداولات سياسية، ومرة يخرج ليطلب من الشعب المزيد من التحمل، وكأنه يتحدث إلى شعب من المطاط أو الأبطال الخارقين.
بل إنه في إحدى المرات صرّح أن البرلمان (لا يُناقش بناءً على الشارع)، وهذه الجملة وحدها كافية لأن تُدرّس ضمن مسرحيات العبث السياسي في العالم، فكيف لمجلس يُفترض أنه ممثل الشعب ألا يُعير الشارع انتباهًا؟ وكأن وظيفته التهليل والتصفيق لا أكثر.
الوزير نفسه لو ترشّح اليوم في أي حي عشوائي لحصل على عدد أصوات أقل من بياع الترمس، لكنه أمام الكاميرا نجم لا يُشق له غبار، يوزّع الشعارات ويُقدّم الحلول الوهمية، وكأنه يقدم برنامجًا صباحيًا لا سياسة وطنية.
المشكلة في مصر لم تعد فقط في الأداء (الإعلامي)، بل في جوهر الفكرة.. نحن لا نحكم بل نُمثّل، لا ندير دولة بل نُجري بروفة عرض مستمر، الكل فيه يؤدي دوره بنجاح: الإعلامي الذي يصرخ كل ليلة، الممثل الذي يتحول إلى محلل سياسي، النائب الذي يصفق أكثر مما يناقش، والوزير الذي يتحدث كأنه في ندوة تنمية بشرية.
أما المواطن، فهو الوحيد الذي لم يُمنح نصًا أو دورًا، فقط يتلقى الضربات، ويُطلب منه أن يضحك، أن يتحمّل، أن يُصفّق.. وبينما تستمر هذه المسرحية الرديئة، يهرب العلماء، ويُكرَّم المهرّجون، ويُصدّر لنا خطاب خالٍ من أي مضمون إلا التبرير، وكأن الدولة لا تفعل شيئًا سوى تشخيص الأزمة ثم تهنئة نفسها على اكتشافها.
هذه دولة تُراهن على (المشخصاتية) لا العقول، على الديكور لا الجوهر، على التصفيق لا النقد.. دولة اختارت أن تستثمر في الشكل، وتهرب من المعنى.. والمشكلة أن العرض مستمر، لكن الجمهور، وهو الشعب، بدأ يغادر القاعة في صمت.. أو في ضحكٍ مكتوم.
الخلاصة يا حضرات: هل يجرؤ أحد مثلا علي محاسبة مذيع هلل وكبر على موافقة البرلمان الاوروبي بطريقه (تكسف) وعندما عاتبه شخصيه كبيرة غضب ثم أوقف الاتحاد الأوربي بنفسه أو أجل القرض إلى وقت آخر وفقا لتأجيل صندوق النقد، وهذا موضوع ليس مجاله الآن فهل أحد حاسبه أم التوجيهات انه يرقص استربتيز عند موافقة البرلمان الأوروبي؟
وجاء الاتحاد نفسه وأرجأ القرض حد حاسبه أو حاسب من وجهه.. ابداً حد حاسب وزير يقسم أنه سيتمر حتي موته في المنصب، وكأن الأمر بيده هو وحده حتي لو انقلبت الدنيا جالس علي الكرسي رغم أنف الشعب كله.
* المحامي بالنقض- منسق ائتلاف مصر فوق الجميع