رئيس مجلس الادارة : محمد حبوشة
رئيس التحرير : أحمد السماحي

رسمي فتح الله يكتب: (محمد شرف).. رئيس جمهورة نفسه، وضحكة الإسكندرية التى لم تُنصف!

رسمي فتح الله يكتب: (محمد شرف).. رئيس جمهورة نفسه، وضحكة الإسكندرية التى لم تُنصف!

رسمي فتح الله يكتب: (محمد شرف).. رئيس جمهورة نفسه، وضحكة الإسكندرية التى لم تُنصف!
لم يدخل معهد الفنون المسرحية.. لم يكن يحمل فوق كتفه حقيبة أكاديمية

بقلم الكاتب الصحفي: رسمى فتح الله

كانت الإسكندرية، فى ذلك الصباح البحرى، تلفظ موجه على صخور الوجود، حين ولد (محمد شرف) فى يوم 19 فبراير 1963.. طفلٌ لا يدري أن القدر سيكتب له سطرًا من سطور المجد الشعبي، ذلك المجد الذى لا تحمله التيترات، ولا ترفعه اللافتات.. لكنه يظل محفورًا فى قلوب الناس، كما تُحفر أسماء العشاق على مقاعد الكورنيش.

ولد (محمد شرف) فى قلب الإسكندرية.. المدينة التى تشبهه.. بحرها، ناسها، شوارعها، ضحكاتها.. كلها كانت امتدادًا لروحه.

 لم يدخل معهد الفنون المسرحية.. لم يكن يحمل فوق كتفه حقيبة أكاديمية، لكنه كان يحمل فى جيبه موهبة خام.. موهبة نبتت على أرصفة الفقراء، وسُقيت بماء البسطاء.

تخرج من المعهد الفنى التجارى، لكنه كان يعلم أن أرقام الحسابات لا تُشبع روحه.. الروح التى لا تعرف إلا الضحك. أخذ قرارًا يشبه قفزة غواص فى بحر مجهول، ترك الإسكندرية، شد رحاله إلى القاهرة.. مدينة الأحلام المؤجلة.. مدينة تُحبك أحيانًا، وتلفظك أكثر الأحيان.

فى القاهرة، وقف (محمد شرف) أمام بوابات الفن.. لم يطرقها بقبضةٍ غليظة، بل تسلل منها كما يتسلل الضوء من شقوق الجدران.

 لم يبحث عن البطولة.. لم يسأل عنها.. كان يكفيه مشهدٌ صغير، أو جملة عابرة، ليحفر بها اسمه فى الذاكرة.

كان يدخل المشهد مثل نسمة، يملأ المكان بحضوره العفوى.. يلقى الإفيه، فيضحك الناس، ثم يختفى كأن لم يكن.

لكنه كان هناك.. دائمًا كان هناك.. وجهه مألوفٌ كأبواب البيوت القديمة.. صوته دافئ كأكواب الشاى على المقاهى الشعبية.. ضحكته مثل صوت البحر حين يداعب الشاطئ.

رسمي فتح الله يكتب: (محمد شرف).. رئيس جمهورة نفسه، وضحكة الإسكندرية التى لم تُنصف!

رسمي فتح الله يكتب: (محمد شرف).. رئيس جمهورة نفسه، وضحكة الإسكندرية التى لم تُنصف!
لم يكن يمثل.. بل كان يعيش.. كان هو ذاته، ابن الحارة، صديق القهوة، شريك الوجع والضحكة

شريك الوجع والضحكة

لم يكن يمثل.. بل كان يعيش.. كان هو ذاته، ابن الحارة، صديق القهوة، شريك الوجع والضحكة.. حين قال: (أنا رئيس جمهورية نفسى)، لم يكن يقصد الإفيه وحده.. كان يعلن بيان استقلاله عن كل ما يُقيد الروح.

كان يعلن أن الحرية ليست فى منصب، بل فى أن تختار أن تكون نفسك.. فقط نفسك..

تأمل ملامحه.. ستجد أنه يحمل فى وجهه سيرة ناس.. عيونهم تحمل شجنًا قديمًا، وشفاههم تعرف كيف تضحك رغم الألم.

هو ابن البسطاء.. وناطق رسمي باسمهم، حتى لو لم يمنحه أحد تصريحًا بذلك.

فى فيلم (ظرف طارق) اقتحم (محمد شرف) المشهد كأنه اقتحم حياتنا.. وقف أمام (أحمد حلمي) وقال بملء قلبه: (أنا إنسان كائن يعيش ويتعايش.. أنا مش تبع حد.. أنا رئيس جمهورية نفسى)، لم يكن مشهدًا عابرًا.. كان إعلانًا فلسفيًا ساخرًا، عن حق الإنسان فى أن يكون سيد حياته.. مهما صغرت، ومهما هُمشت.

ثم طلب ببساطة مذهلة: (سامو عليكو.. التلاجة فيها مَيَّه؟.. أصل أنا جعان أوى أوى.. ياله من جوع.. جوع لا يشبع بالطعام وحده، بل جوع للحياة.. للوجود.. للاعتراف.

وفى (زكى شان)، حين قال بجملته الخالدة: (طالما دخلت عالم المخدرات لازم أقعد فيه مش أقل من سنة وبعدين أحول)، لم يكن يُضحكنا فحسب.. كان يعكس مأساة جيل بأكمله.. جيل يقف دائمًا فى منتصف الطريق بين الخطأ والصواب.. بين الحلم والخذلان.

ثم أكملها بصرخة تُضحك وتبكى: (اضرب كمان.. قفّلهوملى باكو).. أى عبقرية تلك التى تجعلك تضحك من جملة، وأنت تدرك أنها، فى عمقها، مرثية للحياة ذاتها؟

وفى (جعلتنى مجرمًا)، حين أسس (صالون مشمش الثقافى)، لم يكن مجرد تاجر مخدرات كوميدى.. كان فيلسوف الهامش، الذى يرى أن حتى الحشيش يحتاج إلى ثقافة.. وأن الضياع، هو الآخر، يمكن أن يكون مشروعًا حياتيًا لمن لم يجد طريقًا آخر.

لكن الحقيقة الأجمل، أن (محمد شرف) لم يكن بحاجة إلى نص مكتوب.. كان يمشى فى الشارع، فتخرج منه الإفيهات كما يخرج العطر من الورد.. جملته الشهيرة فى فيلم (صباحو كدب): (ده مش لينا.. ده تاكسى لازق فينا)، لم تكن مجرد نكتة، بل كانت تلخيصًا ساخرًا لوضع كثيرين فى هذه الحياة.. أشياء كثيرة ليست لهم، لكنها لازقة فيهم.. الفقر، الهم، الوحدة، المرض.

ومثلما كانت الضحكة سلاحه، كانت أيضًا قناعًا.. قناعًا يُخفى خلفه ألمًا دفينًا.. لم تكن حياته نزهة بين الأدوار.. كانت رحلة بين الخذلان والتجاهل، وبين سعى دائم وراء فرصة، لا تأتى إلا لمن يملكون الواجهة.

رسمي فتح الله يكتب: (محمد شرف).. رئيس جمهورة نفسه، وضحكة الإسكندرية التى لم تُنصف!

رسمي فتح الله يكتب: (محمد شرف).. رئيس جمهورة نفسه، وضحكة الإسكندرية التى لم تُنصف!
لم يمت (محمد شرف).. لأن البسطاء لا يموتون.. هم يذوبون فى تفاصيل الحياة

يقف على حافة المشهد

أحبه الناس، لكن الوسط لم يمنحه ما يستحق.. ظل لسنوات يقف على حافة المشهد.. لا هو فى قلب الصورة، ولا هو خارجها تمامًا.

 كان مثل العناوين الجانبية فى الصحف.. مهمة، لكن لا يقرأها أحد إلا من يبحث عن المعنى الحقيقى.

ثم جاء المرض.. قلبه، الذى منح الناس الفرح، بدأ يتآكل.. أصيب بجلطات فى المخ، وانكمش جسده، وضاق عليه عالمه.. لكنه لم يستسلم.. ظل يبتسم، ويمازح الممرضين، ويقول بنصف ضحكة: (أنا لسه رئيس جمهورية نفسى).

لكن الفواتير كانت أثقل من القلب.. جلس أمام الكاميرا فى أحد اللقاءات، ودمعة تتسلل من عينيه، يقول: (خلصت فلوسى على العلاج.. وسِبت المستشفى ومشيت، عشان مفيش).. يا الله.. يا لهذه الجملة.. كم من البشر قالوها فى صمت؟ كم من الأرواح غادرت أماكنها، لأن (مفيش)؟

كان حزنه شفافًا.. مثل البحر حين يكون صافيًا لدرجة أنك ترى القاع.

 ومع ذلك، لم يتخلَّ عن روح الدعابة.. حتى فى أقسى لحظاته، كان يروى للمذيعة عن زميل مريض، ساعده ليجد سريرًا فى المستشفى، ويضحك وهو يقول: (أنا مكنتش لاقى سرير لنفسى.. بس لقيتله لزميلى ).

رحل (محمد شرف) فى 27 يوليو 2018.. رحل بهدوء، كما كان دائمًا.. لم يُحدث ضجة.. لم تتصدر صورته الصفحات الأولى.. لكنه ظل حاضرًا فى قلوب الناس. لم تُشيعه المهرجانات، لكن ودعته المقاهى.. والمارة.. وسائقى التاكسى.. وباعة الصحف.. والبحر.

اليوم، حين تسمع أحدهم يقول ساخرًا: (أنا رئيس جمهورية نفسى)، أو يعلق على ورطة قائلاً: (ده مش لينا.. ده تاكسى لازق فينا)، أو يطلب من صديقه: (التلاجة فيها ميَّه؟ أصل أنا جعان أوى أوى)، أعلم أن شرف ما زال حيًا.

لم يمت (محمد شرف).. لأن البسطاء لا يموتون.. هم يذوبون فى تفاصيل الحياة.. يصبحون جزءًا من المشهد.. من النكتة التى نتداولها.. من الضحكة التى نُطلقها فى مواجهة القهر.

لقد كان (محمد شرف) درسًا حيًا فى كيف تكون عظيمًا دون أن تحتاج إلى بطولة.. وكيف تكون مهمًا، حتى لو كان اسمك مكتوبًا بخط صغير.. كان إعلانًا مستمرًا بأن الإنسان، مهما صَغُر، يمكن أن يكون عالمًا بأكمله.

فى آخر مشاهده على هذه الأرض، وقف أمام الحياة وقال لها بابتسامة متعبة: (اضرب كمان).. ثم رحل.

لكننا، نحن، الذين نعيش هنا.. على مقاهى الحياة.. ما زلنا نرد عليه، فى كل مرة نشعر فيها بالوجع: (قفّلهوملى باكو.. يا شرف).

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.