رئيس مجلس الادارة : محمد حبوشة
رئيس التحرير : أحمد السماحي

محمود عطية يكتب: التنمر (نبيلة عبيد)!

محمود عطية يكتب: التنمر (نبيلة عبيد)!
الفنانة الكبيرة (نبيلة عبيد) ذنبها أنها قالت كلمة صدق

بقلم المستشار: محمود عطية *

في خضم الفوضى التي صنعها قانون الإيجارات القديمة، طالت موجة شرسة من التنمر والسخرية واحدة من أهم نجمات الفن المصري والعربي، الفنانة الكبيرة (نبيلة عبيد)، لمجرد أنها قالت كلمة صدق، حين تحدثت عن شقتها في شارع جامعة الدول العربية، وعن ذكرياتها التي صنعتها في هذا المكان.

لتجد (نبيلة عبيد) نفسها في مرمى سهام من يدّعي أنه رئيس ائتلاف ملاك العقارات القديمة، الذي خرج بكل تبجح وادّعى أن على الفنانة أن تدفع ثلاثين ألف جنيه شهريًا إن أرادت الاستمرار في السكن، وكأن السكن تحول من حق إنساني واجتماعي وتاريخي إلى صفقة إذعان.

وأصبح المواطن أمام اختيارين إما أن يُجبر على دفع أرقام فلكية لا تتناسب لا مع دخله ولا مع الواقع، أو يُطرد من بيته، وتُنسف حياته، وكأن الذاكرة والكرامة أصبحتا نفايات قانونية، تُمحى بمرسوم وتُبتر بتصريح إعلامي.

منذ متى تحوّلت الشقق إلى ميادين للابتزاز، ومنذ متى أصبح السكن الذي عمره عشرات السنين يُقاس بأرقام السوق اللحظية لا بالواقع الاجتماعي والعدالة؟

السيدة (نبيلة عبيد) دفعت في زمنها ما لم يكن بمقدور غيرها دفعه، دفعت أموالًا كانت يومًا ما تساوي الكثير، وتم التعاقد معها تعاقدًا رضائيًا، ورضي المالك يومها كل الرضا، بل وربما هلل أن (نبيلة عبيد) ستكون من سكان عمارته، وكانت في قمة نجوميتها وتألقها.

ومع ذلك لا أحد تحدث وقتها عن ما دفعته أو عن القيمة السوقية، الكل صمت لأن التوازن وقتها لم يكن مفقودًا، ولأن الضمير كان موجودًا، أما الآن وبعد أن شحّ الضمير وتفشى الجشع المقنن.

خرج من يقول لها وبصوت مرتفع ادفعي ثلاثين ألف جنيه، يا للعار، ليس لأنها (نبيلة عبيد) فقط، بل لأن منطق الإذلال أصبح هو الحاكم، والكل يتفنن في جلد المواطن، وكأننا لم نكتفِ بما يحاصر الناس من غلاء وضرائب وقهر حتى نضيف إليهم طردًا من بيوتهم.

محمود عطية يكتب: التنمر (نبيلة عبيد)!
ليست أزمة قانون فقط، بل هي مؤامرة كبرى على الشعب

تذبح الفقراء باسم التنمية

هذه ليست أزمة قانون فقط، بل هي مؤامرة كبرى على الشعب، مؤامرة تشارك فيها أطراف تدعي أنها تمثل فئة الملاك، بينما هي لا تمثل إلا المصالح الرأسمالية الأكثر توحشًا، وحكومة تسوّق نفسها على أنها صاحبة الإصلاح، بينما هي تذبح الفقراء باسم التنمية، وتستكثر على الإنسان أن يحتفظ بمكان عاش فيه أربعين أو خمسين سنة.

بينما تُفرش الطرقات للمستثمرين والمضاربين وتُمنح لهم الأراضي بالمجان، فهل باتت الدولة فعلاً في موقع الخصم للمواطن؟ هل أصبح السكن – وهو أحد مقومات الأمن الاجتماعي – محل مساومة وابتزاز؟ وما الذي سنربحه من تشريد الملايين؟ أي ضرائب عقارية هذه التي تُبنى على دموع الناس وخروجهم من بيوتهم؟

ما يجري الآن ليس صراعًا بين مالك ومستأجر، بل هو عبث تشريعي ينسف أحد أركان الاستقرار الاجتماعي، فبدل أن توحّد الدولة الشعب، مزقته بقانون يزرع العداء ويغرس الفتنة، ثم يخرج علينا رئيس الحكومة ليقول إن الإيجار القديم يضيّع على الدولة مليارات من الجنيهات.

وكأن المواطن هو المسؤول عن خلل المنظومة الضريبية أو عجز الدولة عن إدارة مواردها، فهل الحل هو أن نرمي الناس في الشارع حتى تعوّض الدولة خسائرها؟ هل تُبنى الموازنات على أنقاض ذكريات الناس؟ وهل تقيّم الشقق بقيمتها الحالية وتُنسى عقود العيش والدفء والحنين التي سكنت جدرانها؟

أقول لكل من أساء للفنانة (نبيلة عبيد) ولكل من يقف خلف هذه الحملة الممنهجة إنكم لا تستحقون قرش صاغ واحد، لأن ما تفعلونه هو تدليس على وعي الناس وتزوير لحقائق التاريخ، فالحكم بطرد الناس من بيوتهم ليس عدالة، بل جور مقنن، وزيف قانوني أُلبس ثوب الدستور زورًا.

لأن القانون إذا انحرف عن روحه الإنسانية سقطت عنه شرعيته، لا بحكم المحكمة بل بحكم الضمير، وقد آن الأوان أن نقولها بصراحة، إن الدولة ذهبت بعيدًا في انحيازها للفئات الأقوى ماليًا، وها هي تعيد توزيع العدالة كما لو كانت غنيمة، تعطيها لمن يملك وتنتزعها ممن لا يملك.

ومن يظن أن القوانين الاستثنائية في الإسكان بدأت في عهد (جمال عبد الناصر)، فهو إما جاهل أو مدلس، لأن أول قانون في هذا السياق صدر في عهد الملك فؤاد سنة 1920، وجاء لحماية المستأجر من تغوّل المالك.

ثم توالت التشريعات التي حاولت أن توازن الكفة بين الطرفين، لكن ما نراه اليوم ليس توازنًا بل انحيازًا فجًا، واستسلامًا لضغوط تكتلات اقتصادية لا تريد إلا مزيدًا من النفوذ والسيطرة، فمنذ متى يُساق الشعب كالقطيع إلى المجهول بهذه الطريقة الفجة؟

محمود عطية يكتب: التنمر (نبيلة عبيد)!
لقد تحمل هذا الشعب ما لا طاقة له به من أجل وطنه ومن أجل قيادته

قدمه جاهزًا (ديليفري) للحكومة

لا أحد ينكر أن هناك حاجة لتطوير التشريعات، ولكن هل يكون التطوير على حساب الإنسان؟ على حساب من لا مأوى له إلا بيته؟ ثم كيف يمرر القانون بصيغته الحالية، في ظل اعتراف أحد مقدميه أنه قدمه جاهزًا (ديليفري) للحكومة؟، وهل هذه هي الشفافية التي بُشّرنا بها؟ وهل صار الشعب مادة للتجريب والتطبيق كما تُطبّق النماذج الجاهزة على ورق؟

لقد تحمل هذا الشعب ما لا طاقة له به من أجل وطنه ومن أجل قيادته، فهل يكون جزاؤه في النهاية أن يُذبح على عتبات قوانين عقارية؟، هل هذه هى المكافأة؟، وهل يمكن لرئيس الجمهورية، الذي أقسم أن يكون خادمًا لهذا الشعب، أن يوقّع قانونًا بهذه القسوة؟، لا نصدق أن هذا يحدث في بلد يُفترض أنه يحمي أبناءه، لا يرميهم إلى المجهول.

(نبيلة عبيد) لم تكن تستجدي عطفًا، بل تكلمت بصدق عن بيتها، عن ذاكرتها، عن عمرها، عن مكان قضت فيه سنين مجدها وأفراحها وأحزانها، فكان جزاؤها أن تُهان، وأن يُقال لها بكل بجاحة ادفعي ثلاثين ألف جنيه، على لسان شخص لا يمثل إلا نفسه، ولا يملك من الشرعية شيئًا إلا صوته العالي في الفضاء الإعلامي.

أما نحن فنقول إن من يسكن بيتًا ثلاثين أو أربعين عامًا لا يجوز طرده بقرار سياسي أو حكم محكمة، بل يجب أن يُحترم تاريخه وكرامته وعمره.

لقد تجاوزنا حدود المنطق، وصار الوطن يُدار بمنطق السوق فقط، لا بمنطق الدولة، فالمواطن لم يعد يُرى كإنسان بل كمصدر دخل، يُنهك بالضرائب، ويُبتز بالقوانين، ويُرهب بالمجهول، وتُباع حقوقه بالتقسيط، حتى وصلنا إلى هذه اللحظة الفارقة التي تُختزل فيها حياة كاملة في إيجار شهري تعسفي، ويفرض عليه أن يسكت، بل ويُتهم حين يتكلم، وتُفتح عليه أبواب الجحيم لمجرد أنه تجرأ وقال: هذا بيتي.

فهل جزاء الإحسان إلا الإحسان؟ وهل يكون رد الوفاء بطرد من صمدوا في وجه المحن؟، لقد آن الأوان لأن نعيد النقاش إلى أصله، وأن نقول للدولة: الشعب ليس أداة لتحصيل المليارات، ولا مادة للتضحية من أجل موازنات مخرومة، بل هو صاحب هذا الوطن، ومالكه الحقيقي، فإما أن يُحترم ويُصان.

وإما أن نُعلنها بوضوح، إنكم تكتبون دستورًا جديدًا من طرد، لا من عدالة، ومن إذلال، لا من إصلاح، بعد أن أصبحت مصر نار جهنم علي مواطنيها بهذا الغلاء الفاحش، وبعد اقرار قانون الإيجارات علي يد الله يسامحهم سيكون إلغاء الإيجارات نهائياً إلا وفق قانون 1996 المسمي قانون الايجار الجديد.

وتصبح مشكلة السكن للمصريين عصيه على الحل وليست عصيه علي التشريع الذي استغل أسوأ استغلال، وتكون مصر من أعلي الدول في أجرة وتملك المسكن في العالم رغم فقر الغالبيه أكثر من 60% منهم تحت خط الفقر.

قال تعالى: (الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ).

* المحامي بالنقض – منسق ائتلاف مصر فو الجميع

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.