
بقلم الكاتب الصحفي: رسمى فتح الله
في بهو الحياة، مرّ خفيفًا كنغمة، عميقًا كقصيدة.. (سعيد صالح) ليس نجمًا كباقي النجوم الذين تسلّقوا الشهرة على سلالم المصادفات، بل كان برقًا صاخبًا، مرّ من بين سحب الكوميديا المصرية، وترك أثرًا لا يُمحى، وسحرًا لا يُفسَّر.
(سعيد صالح) – خريج كلية الآداب، قسم الصحافة، جامعة القاهرة – رجل المسرح والشارع والمقهى، رجل الارتجال الذهبي، الذي وقف على خشبة الحياة كما وقف على المسرح، بقدم ثابتة وروح محلّقة ولسان صادق لا يهادن ولا يلتفّ.
ولد (سعيد صالح) في محافظة المنوفية عام 1938، ولم يكن فلاحًا كما قد يُظنّ لمن جاء من الأقاليم، بل كان ابنًا لبيئة حاضنة للتعليم والطموح، حفظ القرآن صغيرًا، وتفتّحت عيناه على الوعي مبكرًا.
الصحافة كانت بوابته الأولى، لا نحو الورق فقط، بل نحو الناس، في كلية الآداب، حيث الكلمة ميزان والصدق اختبار، تعلم أن الصدق لا يُجامل، وأن الحرية لا تُجزأ.
تخرّج (سعيد صالح) منها لا ليكون صحفيًا يُغلق الأبواب خلفه كل مساء، بل ليكون راويًا مفتوحًا، يُبقي النوافذ مشرعة لضحكة تهزّ الضلوع، أو دمعة تلمع على غفلة.
لم تكن رحلته مع المسرح مجرد محطة عابرة، بل قدرٌ مكتوب، التقى برفيق الدرب (عادل إمام)، على خشبة مسرح التليفزيون، ومنذ ذلك اللقاء وُلدت كيمياء لا تتكرر، وشراكة لا يبهت بريقها.
في مسرحية (مدرسة المشاغبين)، لم يكن (سعيد صالح) ممثلًا فحسب، بل كان صانعًا للحالة، بطلًا يُحرّك الحوار خارج النص، يسكب الارتجال على الورق الجامد، فينقلب الجمهور ضحكًا، ويعلو التصفيق كلما قال جملة من روحه، لا من الورق. جملة واحدة قالها مرتجلًا: (مرسي الزناتي… اتهزم يا رجالة)، ظلّت محفورة في ذاكرة الأجيال، كأنها نُحتت على جدار المسرح.

مواقف مليئة بالفكاهة والمفاجآت
في مسرحية (العيال كبرت)، يضيف سعيد صالح طابعًا كوميديًا مميزًا في تفاعله مع شخصيتي والده (رمضان السكري) ووالدته، مما يخلق مواقف مليئة بالفكاهة والمفاجآت.
الكوميديا في هذه المسرحية تأتي من صراع الأبناء للحفاظ على تماسك الأسرة، لكن الطريقة التي يتعامل بها (كمال) مع والديه تضيف بُعدًا خاصًا للمواقف.
من خلال المواقف الطريفة، يظهر (سعيد صالح) براعته في التفاعل مع المواقف المحرجة والغامضة التي يواجهها الابن مع والديه.
تارة وهو يحاول إخفاء مشاعر القلق عن والدته، وتارة أخرى وهو يتعامل بحذر مع والده، الذي لا يعرف عن هذه (المؤامرة) العائلية.. تتنوع المواقف بين الكوميديا الموقفية والنكتة الذكية التي تكون بمثابة مفاجآت للجمهور، حيث تتنقل المشاهد بين الطرافة والمواقف الدرامية دون أن تشعر بتناقض بينهما.
الفكاهة التي يجسدها (سعيد صالح) من خلال تصرفات (كمال) مع والديه تتضمن العديد من المواقف التي تعتمد على المبالغة في التعبير عن المشاعر، مثل المحاولات المستميتة لإقناع الأب بعدم الزواج على والدتهم، أو التفاعل غير المتوقع مع والدته، كل هذا في إطار سلس من الفكاهة التي تُضفي على العرض لمسة إنسانية وصادقة.
مسرحية (كعبلون) التي قدمها (سعيد صالح) عام 1985، تأليف محمد شرشر وإخراج حسن عبد السلام، تتناول قصة حاكم مستبد (الهباش) الذي استولى على عرش ملك كعبلون بقتل الملك وتزويج الملكة.
يدخل في طابور المتقدمين للزواج من ابنة الملك، (سعدون السايح)، وهو مواطن معارض للحاكم قضى سنوات في السجون.. يُستجوب عن سبب طلبه للرحيل، فيغني قائمة من الممنوعات: (ممنوع من السفر، ممنوع الكلام، ممنوع من الاشتياق..) مشهد يعكس الظلم والرقابة.
المسرحية تميزت بالكلمات الحادة لأحمد فؤاد نجم وغناء (سعيد صالح)، مستعرضة واقعًا سياسيًا ومجتمعيًا ساخرًا.
قال (سعيد صالح) ذات مرة: (أنا ممثل ابن حلال، واللي جوّا قلبي على لساني)، وربما لهذا السبب لم يكن مريحًا لأحد.. قالها في وجه السلطة، في وجه المؤسسات، في وجه المجتمع المزيّف، وقالها في وجه نفسه أيضًا.
وقف يومًا على المسرح وقال ساخرًا: (نص المساجين في مصر خريجي كلية الحقوق… والنص التاني أنا أعرفهم)، فقُيّد الحرية، لأن الحقيقة إذا قيلت بشكل فكاهي، تؤلم أكثر.

كان نوره كافيًا ليبتلع الجميع
قدّمه المسرح كعملاق، لكن السينما عرفت قيمته بالتقسيط.. لم يُعطه صُنّاع الأفلام البطولة كثيرًا، لأن نوره كان كافيًا ليبتلع الجميع، فخافوا منه، لكنه حين أطل، سرق الشاشة.
في (سلام يا صاحبي، ورجب فوق سفيح ساحن، والهلفوت، والمشبوه، وعلى باب الوزير، أنا اللى قتلت الحنش)، كان هو الرائحة التي لا تُنسى، التفصيلة التي تسكن قلبك دون أن تدري، النكتة التي تخرج من فم رجل يعرف الحزن أكثر مما يعرف الضحك، ويعرف القهر كما يعرف الحب.. كان وجهًا يعرف التناقضات: الضحكة والدمعة، الجوع والكرامة، السجن والحرية، المجد والنسيان.
قال عنه النقاد: (هو آخر نجوم المسرح العربي الكبار)، لكن هذا توصيف قاصر.. (سعيد صالح) لم يكن نجمًا يُقاس بالمراتب، بل كان مدرسة قائمة بذاتها.
ارتجاله كان منهجًا، وحضوره كان دعوة مفتوحة لأن تكون صادقًا، ولو كلفك ذلك السجن أو الغياب.
قال ذات مرة: (أنا ما بشتغلش عند الحكومة، أنا بشتغل عند الجمهور)، كان يعرف أن الجماهير هي من تحفظ، وأن السلطة تزول، وأن الكلمة الصادقة تعيش أطول من مئة قرار.
مرت به سنوات سُجِن فيها بسبب كلماته، لا بسبب جريمة.. لكنه خرج كما دخل، يضحك.. قال عن تلك التجربة: (في السجن عرفت معادن الناس، وأنا بحب الناس قوي).. حتى وهو خلف القضبان، ظلّ حُرًا، وربما كان أكثر حرية من كثيرين خارج الأسوار.
في سنواته الأخيرة، أرهقه المرض، وخذلته بعض الرفقة.. لكنه ظل شامخًا، يذهب إلى المسرح، ويؤدي الأدوار الصغيرة كما لو كانت بطولة مطلقة.. حين عاد في فيلم (زهايمر) مع عادل إمام، كانت نظراته تحكي عن ودّ قديم لا يموت، عن عشق للخشبة، عن زمن كان فيه الفن رسالة لا إعلانًا.

لم يكن يحترف النفاق
لم يتزوج كثيرًا، لكن قلبه ظل مفتوحًا للناس.. ابنته هند قالت يومًا: (بابا كان أبًا وأمًّا، كان بيخاف عليّا زي الطفل)، هو نفسه قال في لقاء نادر: (أنا عاشق للحب، بس الحب عندي مش مجرد امرأة، الحب عندي هو الناس، الشارع، الطفل اللي بيضحكلي).
لم يكن يحترف النفاق، ولا يجيد التزيين، عاش كما هو.. رفض التكريمات المصطنعة، وقال ساخرًا: (لما أموت هيكرموني).. ولم يُكرَّم كما يليق، ربما لأن الأنظمة لا تكرّم المرايا الصادقة، تخاف منها.. لكن الناس كرّموه بما هو أثمن: بالذاكرة، بالحب، بالضحك الذي لا يموت.
حين توفي في الأول من أغسطس 2014، بعد يومٍ واحد من ذكرى ميلاده، خفَتَ نور المسرح قليلًا. لكن ضوءه ظلّ باقيًا. لم يُدفن (سعيد صالح) في مقبرة، بل سكن قلوب الناس.. لا زالت الجمل التي قالها، الضحكات التي فجّرها، الدموع التي خبأها، تتردّد بيننا.
في قهوةٍ شعبية، على شاشة قديمة، في مسرح جامعة، أو بين أصدقاء في سهرة، يظهر وجهه، فنضحك.. ليس لأنه مضحك، بل لأننا نشتاق إلى الزمن الذي كان فيه المضحك صادقًا، والساخر حكيمًا، والفنان إنسانًا.
(سعيد صالح) ليس تاريخًا، بل ذاكرة حيّة.. ليس نجمًا مضى، بل شعلة.. هو الفنان الذي لم يطلب البطولة، فصارت له.. الذي لم يهادن، فصار رمزًا.. الذي لم يدّعِ النُبل، فعرفناه نبيلاً.. هو صورة الصدق حين يمشي على قدمين، وضحكة لا تموت.
(سعيد صالح): بهجة خالدة، وصوتٌ صداح في زمن الهمس.. ربما رحل الجسد، لكن روحه.. ما زالت تضحك معنا.