حكايتي مع الإعلام وصناع الاعلام (12).. العمل (الصحفي)

ما بين إدراكي بالعمل (الصحفي) ومولد الإعلام الأمني ومزاولته على أرض الواقع
بقلم الدكتور: إبراهيم ابوذكري
عندما بدأت أولى خطواتي في ميدان العمل (الصحفي) وأتممت تدريبي كمصور صحفي بعد أن كنت مساعدا لأهم مصوري أخبار اليوم بدءا من شيخ المصورين محمد يوسف مرورا بتلامذته (فاروق إبراهيم ومحمد رشوان ومحمد بدر).. وغيرهم عشرات من رموز عمالقة التصوير (الصحفي) بدار (أخبار اليوم).
وبعد أن تلاشي حلمي بأن أكون مساعدا لمدير التصوير السينمائي (وحيد فريد) الذي تم تمريني بفيلم (أبي فوق الشجرة)، بطولة (عماد حمدي ونادية لطفي وعبد الحليم حافظ وفؤاد المهندس).
كما تلاشي حلمي بأن أكون محررا فنيا لعمل تحقيق مع (سعاد حسني) التي أحببتها وأحببت أكون لها (الصحفي) الخاص بها.. ولكن شقيقي كان له رأي آخر.
سلمني شقيقي (وجيه أبوذكري) للكاتب (الصحفي) المؤرخ (جمال بدوي) رئيس قسم خارج القاهرة بجريدة (الأخبار) القاهرية وبدوره سلمني للكاتب (الصحفي) القادم من المعتقل (مصطفي سنان) نائبه، لأبدأ معهم محررا تحت التمرين بقسم خارج القاهرة.
وكلما فكرت أني التحقت بأهم مطبوعة بمصر وهى جريدة (الأخبار) القاهرية التي توزع عدد كبير يتخطى المليون نسخة ويطلع عليها الملايين من القراء.. كلما احسست بالفزع والرهبة من كتابة كلمة واحدة تضعني في امتحان عسير أمام كل هؤلاء القراء.. ومضى شهر كامل من الشهور الثلاثة التي حددت الى بفترة اختبار، دون أن أكتب حرفا..
ولاحظ المرحوم (الصحفي) مصطفي سنان الذي خرج من السجن حديثا وهو من عمالقة الصحافة الذي سجن من أجل كلماتها مرات ومرات، وتعجب – رحمة الله عليه – لحيرتي التي وقعت فيها.. وسألني.. وقلت له بصراحة أني لا أدرى كيف أبدأ، ومن أين؟
وقال لي على الفور:
ابدأ من أقسام الشرطة.. تردد عليها.. وصادق ضباطها.. وستجد فيها الكثير الذي يستحق الكتابة.. وكانت هذه النصيحة بداية لم أكن أعلم أنها ستكون المستقبل (الصحفي) الذي رسمه الله لي بعد عدد من السنوات من سماعها.

أهم مطبوعة شرطية بالخليج
وتكون هذه النصيحة هى شهادة الخبرة التي منحتني موقع رئيس تحرير أهم مطبوعة شرطية بمنطقة الخليج بالسبعينيات، وتولي أهم موقع إعلامي في منطقة الخليج العربي كله كضابط إعلام لوزارة داخلية الإمارات، في أهم فترة من فترات انطلاق هذه المنطقة إلى العالم.
لم أتخيل أن هذه النصيحة والدرس يجعلني أحد أعمدة العمل (الصحفي) بمجال الاعلام الأمني بدولة الامارات، بل أول حجر أساس وضع في هذا المجال وهذا الجهاز بهذه الدولة والأول في كثير من المؤسسات الشرطية الإعلامية التي بنيت في هذه الدولة الرائدة.
وعندما أسست وتوليت مسؤولية رئاسة تحرير أول مجلة للشرطة بدولة الإمارات العربية.. وأسست أول مكتب إعلام أمنى بشرطة أبو ظبي.. وعندما أطلقت أكثر من مشروع إعلامي أمني شرطي، وفي المقدمة سلسلة كتب درست بكلية شرطة أبوظبي بعنوان (نور علي الطريق).
بمناسبة إطلاق أسبوع المرور المخصص له باب في هذه السلسلة أدركت بما لا يدع مجال للشك أن أقسام الشرطة هي نقطة البداية لعدد هائل من الصحفيين اللامعين.. واقتنعت بهذا الكلام..
هذه النصيحة من المرحوم (الصحفي) مصطفي سنان، والتي جعلتني أتردد على أقسام الشرطة.. وأسهر الليل كله في بعضها لكي أتابع تحقيقات أو أستمع إلى الضباط يروون لي ذكرياتهم.. ونشرت أول تحقيق صحفي بقسم التحقيقات الصحفية، وبالتوازي مع عملي (الصحفي) بقسم خارج القاهرة لي عن جريمة قتل غامضة تابعتها حتى تم القبض على القاتل..
اقتنع الجميع بالجريدة بأنني أصلح للعمل (الصحفي).. وبدأت فترات ترددي على اقسام الشرطة تطول.. ووجدت أمامي كنزا لا ينضب من الحكايات، والحوادث التي تتجدد كل يوم..
كنت أشعر بلذة كبرى وأنا أحضر وأتابع التحقيقات مهما كانت القضايا تافهة.. كنت أشعر وكأنني أغوص في جوانب النفس البشرية.. وأنا أستمع الى أسئلة المحقق وإجابات المتهم..
وأستمع إلى إنكار المتهمين وهم يدافعون عن براءتهم بحماس.. والذي يلاحق الإنسان المسكين المتهم بجرم لم يرتكبه، كنت أشعر بالعداء لضابط الشرطة الذي لا يريد أن يقتنع بمبررات المهتمين الذين ينكرون ارتكابهم الجريمة، ويصرون على موقفهم بشدة..

أسئلة مثل طلقات الرصاص
كان أحيانا أن هذا الشخص يقنعني أنا أنه فعلا بريء.. لدرجة أنني أشاهد المتهم محاط بأسئلة كأنها طلقات الرصاص.. ثم أرى نفس الشخص البريء هذا وهو ينهار في النهاية ويعترف ويمثل طريقة ارتكابه الجريمة بتفاصيل جريمته، ويرشد عن مكان السلاح الذي استخدمه.
ورأيت في أقسام الشرطة زوجات خائنات.. كل واحدة خانت لسبب.. بعض الأسباب تافهة.. وبعضها غير تافهة، وكلها تلقى المزيد من الغموض على هذه الشخصية الإنسانية المحيرة.
رأيت المرأة في أقسام الشرطة مدارس صحفية ورأيت جثثا مثل بها وأطفالا ألقت بهم أمهاتهم في الطرقات، وخادمات کوتهن سيداتهن بالنار.. وأبناء قتلوا أمهاتهم وآباءهم.. وآباء قتلوا بناتهم.
وعرفت أن بعض البشر يتحولون أحيانا الى وحوش تجروا من إنسانيتهم ولا بد أن يكبلوا ويوضعوا في أقفاص الحيوانات وهذه مهمة الشرطة.
وحاولت أن أتحسس في نفس الإنسان.. هذه اللحظة الحاسمة التي يقف فيها على حافة الانحراف.. هو في جانب والمجتمع كله في جانب آخر.. وأعتقد أن الانحراف يبدأ في العقل والتفكير، عندما يعتقد إنسان أن في قدرته وحده مواجهة هذا المجتمع كله وقتال أفراده.
وتعلمت من أقسام الشرطة الكثير والكثير.. تعلمت من أقسام الشرطة والتحقيقات التي تدور فيها طريقة إلقاء الأسئلة.. وكيفية صياغة السؤال بحيث يضطر الشخص المسئول إلى ان يجيب إجابة محددة..
وتعلمت كيف أحاصر شخصا بالأسئلة.. وأستشعر إذا كان – كاذبا أم صادقا – وأتابع كلمات الإجابة التي تخرج من بين شفتيه، ومع لغة الجسد وهو يلقي الأجوبة.
تعلمت كيف يمكن أن ينصب شرك مميت بعدد قليل من الأسئلة التي تبدو بريئة كل البراءة، ولكنها تمهد للسؤال القاتل الذي ينهار بعده المتهم ويعترف.
تعلمت طريقه صياغة كلمات السؤال الهامة.. ولكن الأهم منها طريقة توجيه السؤال.. فصياغة الكلمات مثل أعداد ورص طلقات الرصاصات بخزينة المسدس، وطريقة توجيه السؤال من المسدس اللازم لإطلاقها على الهدف.

رجال الشرطة بشر مثلنا
إن رجال الشرطة بشر مثلنا.. لكنه يرى البراءة على وجه القاتل ويستشعر أنه قناعا له، وأن الإجابة بلا قد تعني نعم.. وأن الوجه التمثيلي الذي يحاول المجرم أن يخدع به الجميع وأولهم رجال الشرطة الذي ينطلي عليه وكون لديه قناعة بكونه مجرما.
وتعلمت من متابعتي لطريقة تحريات الشرطة ورجال البحث الجنائی، أن كل جهد صادق لا بد وأن يمر، وأن کل تفصيله من التفاصيل مهما كانت بسيطة فهي مهمة..
وكل ما يبدو لأحد أنه تافها في البداية، ولكن عند وضعه مع تفصيل آخر وقبل تفصيل ثالت.. يكون جملة مفيدة ربما تكون هى المفتاح للجريمة الغامضة.
وعرفت في أقسام الشرطة أن رجل الشرطة ليس هو ذلك الإنسان الخشن الذي يرتدي زى السلطة والذي نعتقد جميعا أنه ينفد القانون بقسوة بلا قلب، لكني رأيت عيناه مملوءة بالدموع عندما وضعته ظروف معينة وهو ينفد القانون.
رجل الشرطة يشعر ويتألم عندما يري من موقعه قاع المجتمع ويعيش إنسانيته، ولكن مضطر إلى إخفاء كل هذه المشاعر بغلاف من الصلابة، فهو إنسان أودع المجتمع بين يديه مسئولية أمنه واستقراره وهذه مسئولية خطيرة، ولا بد أن يكون قاسيا على كل من يحاول أن يهز هذا الأمن أو يمس ذلك الاستقرار، ولقد خرج من صفوف ضباط الشرطة فنانون وكتاب وصحفيون وشعراء!
وقد مر في حياتي كثير من الأصدقاء نجوما بالمجتمع بدأوا حياتهم العملية ضباط شرطة في المقدمة الفنان صلاح ذو الفقار والكاتب المسرحي الكبير سعد الدين وهبة، الذي كتب للمسرح أدق نماذج من المجتمع، والمنتج الفني ممدوح الليثي، الذي خرج من بين يديه أجمل ما أنتج من فنون أسعدت الكثيرين من الوطن العربي.
وكان لي صديقا من ضباط مكافحة التهريب كان يشترك في مطاردات رهيبة خلف عصابات التهريب.. وكان يعود إلى مكتبه ولازالت في يديه رائحة بارود المدافع الرشاشة.. ثم يبدأ في كتابة أرق أغنيات الحب.. أنه صاحب العديد من الأغنيات التي تغنيها أشهر المطربات المصريات والامثلة كثيرة
أريد أن أقول..
أنه لو سألني شاب يريد أن يبدأ أولى خطواته في ميدان الصحافة كيف يبدأ لطلبت منه أن يعمل محررا للحوادث فهناك سيشاهد المجتمع عاريا.. سيراه من تحت الجلد.. خبرته يلتقطها من أقسام الشرطة ويحس بما لا يستطع الإنسان العادي أن يحسه ويستشعر ويتلمس قاعه..
فأقسام الشرطة ليست كلية إعلام فقط، ولكنها جامعة للعلوم الإنسانية والإعلامية بها قصص إنسانية كثيرة لا تقدر بثمن ولا يمكن أن يجدها في أضخم مجلدات أقلام وأفكار كتاب الروايات.
وهنا لابد أن أشير الي أكبر صحفي في العالم العربي – رحمة الله عليه – الأستاذ محمد حسنين هیکل رئيس تحرير صحيفة الأهرام المصرية.. بدأ حياته الصحفية محررا للحوادث في أحد أقسام الشرطة!